‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات رأي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات رأي. إظهار كافة الرسائل

بين ازدهار الفرد وامتداد التنظيم

بين ازدهار الفرد وامتداد التنظيم
أيوب بوغضن 
تجمع "التنظيمات" نخبة من أبناء المجتمع، قد لا تحتل الصدارة في الميادين العلمية المرموقة، ولكنها تتميز عن القاعدة الواسعة من أبناء المجتمع المتقاعسة عن كل حركة اجتماعية أو فكرية. في السطور أدناه، لا يهمنا لون التنظيم بقدر ما تهمنا الخصائص المشتركة لدى كل التنظيمات. 

تفرض "التنظيمات" إيقاعا "موضوعيا" خاصا على عناصرها. في غالب الأحيان، تسير سَيْر "أوسط" أعضائها (من حيث القدرات الذهنية والتقنية). ولهذا قد تجد "تنظيما" يشمل صفوة الصفوة من المثقفين (على سبيل المثال، اتحاد كتاب المغرب)، ولكن في مقرراته وفي ميثاقه الجماعي لا يمكن أن يعبر على أفكار مثقف واحد "استثنائي" (قادر على مستوى عال من التجريد والتنظير)، بل لا بد أن يجد كل عضو ذاته في الانتماء إلى هذا "التنظيم الثقافي". 

ولهذا، نلفي النبهاء الكبار الذين يتميزون بلياقة ذهنية حادة جدا، لا يجدون لأنفسهم صدى كبيرا داخل أي "تنظيم". فتراهُم يحسون ب"غربة" ملموسة بشكل أو بآخر، مردُها إلى أن المُخاطَبين من داخل البنية التنظيمية يضيق أفقهم عن استيعاب مرامي خطابهم وآفاق أفكارهم. 

هكذا، يجدون أنفسهم أمام خيار صعب، وهو إطلاق العنان للتفكير ولكن في "إطار" وفي "أفق" وفي "نسق" التنظيم. إذا حدث وأن دفعتهم الشروط التي يتحركون فيها لقبول سقف "النسق" كأفق للتفكير والتجديد والتنظير، فالنتيجة معروفة: سيكون ذلك مدعاة للراحة النفسية من زاوية معينة، إذ سيكونون أمام جمهور (أعضاء التنظيم) يستَحْلون كلامهم ويطالبونهم بالمزيد (المزيد من التنظيرات التي تسمح بتثبيت النسق وبث الأمل في الأفق). 

غير أن ازدهار الفرد النابه من زاوية أخرى، كفرد يتحدد وجوده الحقيقي ضمن معادلة مجتمع مفتوح وليس ضمن معادلة تنظيم محصور، لن يتأتى داخل "إطار" التنظيم. فمن أجل التألق الذهني والوجداني يحتاج إلى "الانطلاق" و"التحليق" بعيدا. ولهذا، فوجود هؤلاء الأفراد الذين يفقسون "بيضة" البنية الفكرية والمذهبية للتنظيم داخله، مدعاة إلى تفجير تناقضات حادة. 

إن وجودهم داخل التنظيم واختلاطهم بالأعضاء وتأطيرهم للنقاش في السر والعلن مدعاة لإشاعة رؤى متباينة ووجهات نظر متمايزة وأحيانا مرجعيات متناقضة. إن التنظيم، قبل كل شيء، هو فعل وحركة وعمل على الأرض (نشاط، تظاهرة، مظاهرة،... إلخ). ولهذا، فمنطق التنظيم يتضايق من منطق الفرد الذي يقول لنظرائه "تريثوا.. لا تتحركوا، حتى ندقق الوجهة والمسير على المستوى النظري أولا". 

إن التنظيم لا يحتمل، بطبيعته، أفرادا يتجاوزون أفقَه ويستخفون بشعاراته ويستهينون ببرنامجه. إن وجود هؤلاء الأفراد في "الهوامش" مدعاة لتمزيق "المركز"، فالسرعة التي يسيرون بها لا طاقة للتنظيم بها، ولهذا فهي قاتلة. 

وجبت الإشارة إلى أن النبهاء (المقصودين في السطور أعلاه) هم قلة قليلة جدا بالنظر إلى الشريحة الواسعة من أفراد المجتمع التي بالكاد يقترب تعاطيها الذهني مع الشأن العام والوجدان الخاص مع المستوى "الأوسط" للتنظيمات. فمستوى أفراد المجتمع – في عمومه، مع استحضار كل الطبقات خاصة الدنيا – دون المستوى الذهني الذي تروج له التنظيمات. 

لم تحتمل جماعة الإخوان المسلمين في مصر منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي فقيها نبيها مثل الشيخ محمد الغزالي، ولهذا غادرها وانطلق خارجها وقام بالتأثير الإيجابي على أعضائها. ولم تحتمل حركة النهضة في تونس منذ نهاية السبعينيات قامة علمية ساطعة من طينة الأستاذ حميدة النيفر، ولهذا غادرها رغم أنه كان من أبرز مؤسسيها. ولم تحتمل حركة التوحيد والإصلاح في المغرب منذ مطلع الألفية الثالثة الآفاق البعيدة لرجل من أنجب أبنائها، هو الأستاذ إبراهيم أمهال، ففصلته رغم أنه من أشد المخلصين لروحها ورسالتها القيمية المفارقة. ولم تحتمل مؤسسة علمية وبحثية من طينة "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" أسئلة عقل نادر المثيل، هو أبو القاسم الحاج حمد، ولهذا لم تستنكف من محاكمته "المعنوية" وإدارة الظهر لاتجاهه الفكري العميق. 

إن التناقض القائم بين رغبات "الفرد" ورغبات "التنظيم" هو تناقض موضوعي مفهوم. إن التنظيم، بطبيعته، جسم حركي ديناميكي لا يحتمل التأني والتمهل قبل المبادرة إلى الفعل. بينما الفرد، بطبيعته، يرغب في تمحيص الحقائق وتدقيق الاختيارات وتصحيح عقد الازدياد وإعادة النظر في الأوراق على ضوء الآفاق المعرفية الجديدة، ولهذا فهو يعطل مبرر وجود التنظيم أي "الحركة" على الأقل أو يمزقه في حال ما صارت أفكاره قوة مادية في شخص مجموعة متماسكة من داخل جسم التنظيم. 

الواقع الموضوعي بدوره يتطلب "تنظيمات" قوية ومتماسكة وفاعلة وغير مترهلة وغير مترددة في فعلها وحركتها، ولكن في نفس يتطلب أن تسير هذه "التنظيمات" على هدي المعرفة العلمية وأن تخوض المعاركة الحقيقية وأن تعيَ التناقض الرئيس من التناقض الثانوي وأن تميز الخطوة "التكتيكية" من الخطوة "الاستراتيجية"... إلخ، وهي مسائل بحثية وعلمية لا يمكن أن ينهض بأعبائها إلا الأفراد الذين يتمتعون بلياقة ذهنية غير مألوفة. 

هي معادلة موضوعية صعبة ومعقدة، يبدأ حلها من إشاعة المناخ العلمي في صفوف المجتمع الذي يعيد إنتاج أمراض "التنظيمات"، حتى تتسع القاعدة العريضة للأفراد: المتفهمين لمسألة تحرير "النظر" قبل الانطلاق في "العمل"، والمعانقين لنتائج البحث العلمي في كل القضايا الاجتماعية المطروحة، والمخلصين للقيم المتجاوزة المفارقة للذوات والأنانيات الضيقة. طبعا اتساع هذه القاعدة، سينعكس على مستوى القيادة سواء المحلية أو المركزية، وبالتالي سيخفف من حدة التناقض الموضوعي القائم بين رغبات "الفرد" في الازدهار ورغبات "التنظيم" في الامتداد. 

في النهاية، التنظيمات هي التجسيد المادي للأفكار (أفكار الأفراد النبهاء). ف"الأفكار" لا قيمة لها في حد ذاتها إن لم تتحرك في نفوس الأفراد وسلوك المجتمعات، وصلة الوصل الكفيلة بإنجاز ذلك حتما هي "التنظيمات". كما أن "التنظيمات" لا معنى إن كانت مجرد تجمع بشري يلتئم حول قضايا زائفة ويوفر ملاجئ اجتماعية ويهيئ مسكنات نفسية ويخدم حق الارتقاء الاجتماعي المشروع لبعض أعضائه.

إلى متى سنلجأ الى مخيم الزعتري... ؟!

إلى متى سنلجأ الى مخيم الزعتري... ؟!

محمد الكبش

على بعد أيام من الآن ستتوجه قوافل المصطافين الذين تم انتقاؤهم في اتجاه مخيم الزعتري للاجئين الفارين من حرارة الصيف. لكن واقعيا هذه المبادرة ان كانت لها أهداف انسانية محضة و رغم كل محاسنها الا انها ستكون لها تبعات على حساب مجالات أخرى مهمة بالإقليم. فكما أشار احد اعضاء المجلس الإقليمي في دورة من دورات المجلس السابقة ان عدد المستفيدين سيتجاوز 200 مستفيد و الأكيد ان هذا العدد يعكس في الواقع ازيد من 800 مستفيد لو افترضنا ان اسرة كل مستفيد من المئتين مستفيد تتكون من 4 افراد لكل أسرة. و اذا ما أضفنا هذا العدد لعدد العائلات التي تغادر الإقليم دون الحاجة للجوء لمخيم الزعتري فقد يتجاوز العدد 1500 فرد بالإضافة إلى الموظفين المستفيدين من العطلة الصيفية و غيرهم....

ان هذه الهجرة الجماعية سيكون لها انعكاس على الحركة الاقتصادية بالإقليم مما يدفع بالعديد من المحلات التجارية الى غلق أبوابها مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر أضف الى ذلك حاملي مشاريع التشغيل الذاتي يضطرون أيضا الى التوقف عن العمل طيلة تلك المدة و هذا مشكل حقيقي يتناقض مع فلسفة التشغيل الذاتي المعتمدة بالإقليم. 
ان واقع حالنا اليوم و نحن نعيش موسم الهجرة كل سنة ليس هروبا من حرارة الجو بل لانعدام مقومات الاستقرار بالإقليم و غياب شروط الاستقرار فكيف بنا ان نقنع طبيبا او ممرضا بالاستقرار و نحن اول من يرحل؟! ان مشكلة الإقليم الحقيقة هي مشكلة مرتبطة بالتنمية و مقوماتها من بنى تحتية و مساحات خضراء و كهرباء و ماء و تشغيل و غير ذلك.... فغياب هذه المقومات أشد بكثير من حرارة شمس الصيف.... 
عموما نحن لسنا ضد الفكرة من حيث المبدأ لكن سيكون لها تأثير سلبي على أمور أخرى اهم بكثير من رمال الشاطئ الأبيض.

لننتبه… من معنا ومن ضدنا!

لننتبه… من معنا ومن ضدنا!

حسن حمورو

الاستغراق في تتبع تفاصيل الأحداث الجارية، يحجب الحقيقة كاملة، ويمنع الفاعلين ذوي المصداقية والغيرة الوطنية، من تجميع عناصر الفهم والاستيعاب الضروريين في التقييم والتقويم، وفي اختيار المواقف المناسبة، وفي بناء خطاب سياسي مقنع لتأطير المجتمع، تأطيرا يسهم في تعزيز الوحدة والاستقرار. 
وإذا كان اصطناع الأحداث والأزمات بشكل متوالٍ، وتعميم الغموض وتكثيف الدخان الحاجب للرؤية، استراتيجية معمولا بها من طرف مراكز النفوذ، الساعية إلى خنق مؤسسات الدولة ذات الاختصاص الدستوري في إصدار القرار السياسي الوطني، وتجريدها من عناصر قوتها ومصداقيتها، فإن نخب المجتمع الحاملة للهم الوطني، والأحزاب السياسية تحديدا، مطالَبة بالوعي بما يُحاك في العمق، وبما يتم تمريره على شكل قرارات وقوانين في غفلة من الجميع، والوعي بما تخفيه كثرة الأحداث وطريقة معالجتها إعلاميا، وامتداداتها وتأثيرها على وحدة مكونات المجتمع، الضامنة للاستقرار.
إن ما يعيشه المغرب من احتجاجات في قطاعات مختلفة، بقدر ما تعكس اختلالات غير خافية، وترفع مطالب في عمومها مشروعة، بقدر ما تصاحبها مؤشرات تؤثر على مستوى براءتها، وتشير الى أنها مضخمة في اتجاه معين، يُؤمّن الانتقال السلس من استراتيجية تدبيرية إلى أخرى، أهم عناوينها انسحاب القطاع العام، ودخول القطاع الخاص مكانه، وما يطرحه ذلك من إشكالات يدفع المواطن البسيط ثمنها، والقصد هنا ما يجري منذ مدة في قطاع الصحة أساسا، بعد أن جرت العملية نفسها في قطاعات أخرى كالتعليم ومجالات اقتصادية أخرى. 
في هذه المساحة ينبغي للأحزاب السياسية أن تجدد مداخل الفهم، وأساليب العمل، لتعبر بالملموس عن ولائها الكامل للوطن، وتجتهد في المساهمة في خلق بيئة مساعدة على النقاش العمومي حول ما الذي يجري في البلاد، وما الثابت فيه وما المتحول، وما أسباب التحول، وأفقه، والمستهدف به، ثم لإيجاد حلول تخفف حدة ما هو مفروض تصعب مواجهته، وفي الوقت عينه تحصن الخصوصية الوطنية، خاصة على مستوى القيم والمبادئ والثقافة الجامعة، وتضمن للبسطاء شيئا من حقهم على الدولة. 
المغرب إذن، في حاجة ملحة إلى أحزاب قادرة على التفاعل مع المستجدات والتحديات، بعيون المستقبل، لكن بدون نظارات موروثة عن الماضي، تفاعل تحافظ فيه على هويتها وتقوم بأدوارها، وتعيد ترسيم العلاقات فيما بينها وتأجيل الاختلاف ما أمكن ذلك، والحذر من أن يتجاوز السقف الذي يتحول معه من اختلاف خادم للتنوع والتعددية، الى عنصر إضعاف للدولة، أو عنصر الهاء للمواطنين، وتضليلهم، أو تسليمهم لقمة سائغة لمن لا يرون فيهم إلا أرقاما تنشط السوق وتحقق الأرباح. 
وتأجيل الاختلاف لا يعني توقيع شيك على بياض، لأي جهة أو التطبيع مع الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو فقدان الاستقلالية أو التراجع عن المرجعيات الحزبية الخاصة، وإنما لتقليل مظاهر التوتر داخل المجتمع، وإشاعة الثقة والطمأنينة، وضمان الانخراط الجماعي في المعارك الوطنية، التي من شأنها إسناد المؤسسات السيادية المطالَبة هي الأخرى، بإشراك الجميع في ما تعتزم القيام به، دفاعا عن سيادة البلاد وحفظ استقلاليتها عن القوى المتصارعة دوليا، التي لا تُخفي طمعها في إلحاق المغرب بالقطيع التابع لها. 
باختصار شديد، هذه دعوة إلى تغليب المصلحة الحقيقية للوطن والمواطنين، ووصفة يمكن أن تساعد على التعرف على الأحزاب الوطنية الجادة، وفرزها عن التجمعات المصالحية والجماعات الوظيفية، التي تقدم نفسها أحزابا سياسية، حاملة لشعارات براقة، لكن تفاصيل خطابها والمطالب السياسية التي تطرحها، يخلق التباسا في ولائها.. لننتبه.. من يمثلنا كمغاربة ومن معنا ومن ضدنا!

شمّاعة الجماعة!

شمّاعة الجماعة!

عادل بحمزة

قبل ثمانية سنوات، وعقب وصول حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة، كان مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان، وجه رسالة إلى قيادتي حزب المصباح وحركة التوحيد والإصلاح، اختلط فيها العِتاب بالنصح، لكنها كانت واضحة بما فيه الكفاية بكون الجماعتين على طرفي نقيض، ليس على مستوى المرجعية الدينية والعقدية، ولكن على مستوى الرؤية السياسية ولمسار الإصلاح السياسي في بلادنا.

فقد اعتبرت الجماعة أن: «الحديث عن المؤسسات وتعددها واختصاصاتها في ظل الحكم الفردي ومشروعه السلطوي الاستبدادي ضرب من الخيال»، وأن «العمل من داخلها -أي المؤسسات- وفق شروطه وابتزازه- أي الحكم الفردي-، مخاطرة سياسية، بل هو انتحار حقيقي، وهذا ما يدفعنا إلى الخوف الشديد عليكم وعلى مستقبل رجال ونساء من خيرة أبناء هذا الوطن، ولا نزكّي على الله أحدا، بذلوا ويبذلون، وما أظننا نخطئ إذا قلنا إنهم سيبذلون جهودا كبيرة، ولكن مع الأسف في الاتجاه الخطأ، وفي الزمان الخطأ»، فهل تحققت نبوءة (…) الجماعة في إخوانهم من العدالة والتنمية؟ وهل يعتبر الاتهام العلني للجماعة بكونها المحرض الرئيس لطالبات وطلبة كليات الطب، وهو اتهام غير مسبوق يصدر عن الحكومة التي يقودها الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، علامة من علامات السير في الاتجاه الخطأ وفي الزمان الخطأ؟ بلاغ حكومة السيد العثماني، بقدر ما جاء مستفزا ومثيرا للغثيان في تقدير خصوم العدل والإحسان قبل أنصارها، فإنه أثار كثيرا من الشفقة الممزوجة بالحسرة على ما آلت إليه السياسة في هذا البلد، وهي قد بلغت دركا لا قبل لها به، ولا يمكن أن يكون ذلك بلا عواقب وخيمة تزيد الأمور تعقيدا.

البعض يعتقد أن استمرار المواجهة بين الجماعة والدولة يُضعف هذه الأخيرة، وأن الدولة يجب أن تبقى، ولو ظاهريا، فوق هذه التقاطبات، لذلك، كان من الضروري وضع الجماعة في مواجهة مع أطراف سياسية تلعب دور القفازات، وذلك حتى يصبح استهداف الجماعة يحظى بنوع من المقبولية، فهو في النهاية نوع من التدافع بين مشاريع سياسية – وهذه كذبة كبيرة بالطبع لأن مصيبة البلد أنه لا توجد فيه مشاريع سياسية – عكس تكلفة المواجهة المباشرة التي تضطر الدولة أن تخوضها مع الجماعة في أكثر من مناسبة، لكن يبقى السؤال، هل يمكن أن تصور أخنوش وساجد والعنصر مثلا، قادرون على مواجهة العدل والإحسان؟ ألا يتحول الأمر على هذا النحو، إلى مجرد مشهد هزلي وساخر، لا يُقوض الجماعة ولا يحد من امتدادها، بل يمنحها كل أسباب النجاح…، فما لا تريد أن تقبله أطراف في الدولة، هو أن ما يمنح الجماعة قوة الحضور على أكثر من واجهة، هو أن قتل السياسة ومسخ الأحزاب وتدجين النخب، ونقل «التايلورية» من مصانع السيارات الأمريكية في نهاية الخمسينيات، إلى صناعة المواقف والقرارات السياسية وبلاغات الأغلبية في مغرب 2019، هذا النهج هو ما يُعطي لجماعة العدل والإحسان ميزة عن باقي التيارات السياسية، إن وجدت، وإذا كان جزء من طلبة العدل والإحسان يساهمون في الحركة الاحتجاجية اللافتة لطلاب وطالبات كليات الطب، فهذا أمر عادي وتحصيل حاصل، لأن الجماعة هي الوحيدة اليوم التي تحمل رؤية وخطابا، مهما اختلفت معه، فإنه يظل قويا ومنسجما، وأعضاء الجماعة هم الوحيدون اليوم، الذين يؤطرون النخب الصاعدة في مختلف المجالات والميادين، بينما باقي التيارات السياسية دُجّنت بالكامل وافتقدت المصداقية اللازمة لخوض عملية الاستقطاب والتأطير، غير أنه مع ذلك لا يمكن الاستخفاف بعقول ملايين من المغاربة، والالتفاف على الملف المطلبي الجدي لطلاب وطالبات كليات الطب، في نوع من رمي الطفل مع ماء الغسيل، كما فعلت الحكومة بتحميل مسؤولية الاحتجاجات ومقاطعة الامتحانات للجماعة، دون أن تخوض في جوهر الموضوع، فليس المهم أن تكون الحكومة قطة سوداء أم بيضاء، بل المهم أن تأكل فئران المشاكل، وهو ما لا تفعله قطتنا مع الأسف…، فطالبات وطلاب كليات الطب، لا يدَّعون «القومة» ولا الخلافة على مِنهاج النبوة في ملفهم المطلبي، ولا أن الله أمر بالعدل والإحسان، بل يُسائِلون سياسة الدولة في تفكيك القطاع العام، وفي تحويل التعليم إلى تجارة، وفي تكريس طبقية التحصيل العلمي، وفي انتهازية وجبن الرأسمال الذي يبقى مشدودا إلى الربح السريع دون خوض واجب دعم البنيات التحتية، التي كان ضعفها وعجزها، مبررا لفتح أبواب الاستثمار له على طبق من ذهب، فكيف لحكومة تحترم نفسها أن تغامر بمصير 18 ألف طالب وطالبة من خيرة ما أنجبت بلادنا، فقط من أجل إرضاء حفنة من المستثمرين الجشعين.. أي جرأة هذه؟ أم إنها مجرد جبن يتلبس بالجرأة؟



ليس مهما أن نتفق أو نختلف مع مشروع جماعة العدل والإحسان، وإن كنت لا أرى في مشروع الجماعة ما يشكل إغراءً على طريق بناء دولة حداثية، لكن الحكم على هذا المشروع ومشاريع أخرى ممكنة، لا يتم سوى في بِيئة ديمقراطية. أما تحويل الجماعة، هكذا وباستسهال كبير، إلى مِشجب لكل المشاكل الاجتماعية، من حراك الريف، مرورا بحراك جرادة وملف الأساتذة «المتعاقدين»، وصولا إلى الملف المطلبي لطلبة كليات الطب، فإنه يمكن القول جهرا وهمسا، إن ذلك المِشجب لا يُجدي نفعا أمام ثقل تلك المشاكل… فالمشاكل بحاجة إلى حلول وشجاعة ووضوح، وليس إلى حركات بهلوانية تثير الحسرة…

سنة سوداء لبذلة بيضاء

سنة سوداء لبذلة بيضاء

يونس مسكين
أخطر ما يمكن أن يبتلى به مجتمع ما هو أن تضيع منه خيوط نقاشاته، كما بات يحصل في المغرب كلما تفجّر موضوع سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي. هناك عتمة حالكة ترخي بظلالها على المشهد كلما برزت قضية تنطوي على نزاع بين جزء من المجتمع والسلطة، كما لو أن القنابل الدخانية باتت خيارا ثابتا في تدبير الأزمات.

نحن اليوم على أبواب نهاية مأساوية لسنة دراسية في واحدة من أكثر مؤسسات التكوين العالي أهمية وحساسية. فالشبان الذين انتقيناهم على مدى سنوات مضت من خيرة أبنائنا الحاصلين على شهادة البكالوريا بميزة، والذين ننتظر منهم السهر على علاج أمراضنا ومداواة جراحنا، ينهون سنتهم مهدَّدين بالرسوب الجماعي، وفي أحسن الأحوال بأعطاب اجتماعية ونفسية سترافقهم مدى حياتهم، وتكوين منقوص إن لم يكن منعدما في عام خلت فيه المدرجات والمستشفيات الجامعية من أطباء المستقبل.

هل ننتصب للدفاع عن هؤلاء الشبان، خاصة بعد السقطة المريعة التي أقدمت عليها الحكومة في بيانها الأخير، حين عمدت إلى أسلوب عفّى عليه الزمن كانت تنهجه بعض الأجهزة البوليسية في زمن الرصاص، بتبريرها الأزمة بـ«تحريض» جماعة العدل والإحسان، كما لو كان الطلبة الأطباء مجموعة معتوهين مسلوبي الإرادة، أو كان قيام تنظيم سياسي أو مدني بمعارضة السلطة جرما لا يغتفر؟ أم نركن إلى ما ارتأته بعض الأصوات من تنظير للاستبداد المستنير، على اعتبار أنه لم يكن بالإمكان أكثر مما كان؟

لنجرّب أسلوب «الخشيبات»، ولنبعد الموضوع، أولا، عن ساحة الشعارات الكبرى والخطب الرنانة. قد تكون لهذه المعركة امتدادات في حقول السياسة والاقتصاد ومراكز النفوذ واللوبيات، لكن جوهر الملف دفاع مستميت من لدن فئة معينة من المجتمع عن مصالحها، وهو أمر مشروع ومحمود، لكن، من الضروري تسجيل ذلك.

هل تطوّر الأمر إلى هبّة مجتمعية تنتصر للطبقة المتوسطة أو الفئات الهشة ضد تكتّل مصلحي متحالف مع دوائر في السلطة؟ لا أعتقد ذلك، وإلا لما رافق هذه المعركة كم هائل من الانتقادات والاتهامات الموجهة إلى جسم مهنة الطب، بدءا من ضعف القيام بالوظائف والخدمات الأساسية في المستشفيات والمستوصفات العمومية، وانتهاء بمجازر بعض المصحات الخاصة.

ينطلق دعاة الانتصار لـ«الاستبداد المستنير» من هذا الحنق المجتمعي على الجسم الطبي، ليطالبوا بدعم السلطة في هذه المعركة. يعزز هؤلاء، ومن بينهم أكاديميون، موقفهم هذا بمعركة الخدمة في المجالات القروية والجبلية التي خاضها الأطباء قبل ثلاث سنوات إلى أن أسقطوا المشروع، وبإحجام الأطباء عن المشاركة في مباريات التوظيف في المناطق النائية، فضلا عما ترتكبه بعض المصحات الخاصة من جرائم في حق صحة وجيوب المواطنين المرضى وعائلاتهم.

قبل نحو شهرين من الآن، صدر بلاغ مشترك بين وزارتي الصحة والتعليم العالي، يعلن استجابة الحكومة لجميع مطالب الطلبة الأطباء، وهو ما أعقبه التصويت، الديمقراطي بلا شك، والذي رفض خلاله الطلبة، وبأكثر من 90 في المائة، العرض الحكومي. السبب؟ تتحدث وثائق وتصريحات أطباء الغد عن سببين رئيسين؛ أولهما الإصرار على بقاء طلبة الجامعات الخاصة خارج المستشفيات الجامعية العمومية، وثانيهما رفض الطلبة إضافة سنة سادسة إلى مسار تكوين أطباء الأسنان.

هنا يرتفع صوت خطاب آخر يلمّح إلى وجود يد «لوبيات» ضاغطة وذات نفوذ خاص، تجبر الحكومة على حماية ظهر الجامعات الخاصة، دون أدنى شرح للمقصود بهذه الأحكام وترديد خطابات كبيرة.

فحسب آخر بلاغ أصدرته وزارة الصحة لإعلان تواريخ اجتياز مباريات ولوج كليات الطب، العمومية والخاصة، فإن الحديث في الشق الخاص يهم أربع جامعات تضم كليات للطب والصيدلة. أولى تلك الجامعات هي الجامعة الدولية للرباط، والتي تضم كلية خاصة بطب الأسنان. هذه الجامعة يرأسها الأكاديمي نور الدين مؤدب. ثانية هذه «الجامعات الخاصة» هي جامعة محمد السادس لعلوم الصحة بالدار البيضاء، والتي يتولى رئاستها خبير جراحة الأطفال محمد الأندلسي. وثالثة هذه «الجامعات الخاصة» هي الجامعة الخاصة لمراكش، ويقودها رجل اسمه محمد القباج. أما «الجامعة الخاصة» الرابعة التي تكوّن في المجال الطبي بالمغرب، فهي جامعة الزهراوي الدولية لعلوم الصحة بالرباط، ويرأسها محمد منير الماجدي، مدير الكتابة الخاصة للملك.

هل نحن، إذن، أمام نزعة شبابية متنطعة لطلبة مسنودين بشكل خفي من لدن أساتذتهم وقدمائهم في المجال الطبي، بغاية حماية مصالح ظلوا يحتكرونها ويبتزون الدولة والمجتمع من خلالها، أم هي معركة حاسمة لبسط هيمنة رأسمال خاص يزحف على صحة المغاربة ليحولها إلى أرقام في الحسابات البنكية؟

لا جواب حاسم ما لم تُسحب القنابل الدخانية من المشهد، والأمر الوحيد الذي جرى حسمه، هو دوس الطرفين معا على الحكومة في ساحة مواجهتهما، وتجريدها مما تبقى لديها من «كرامة»، حين لم تجد سوى شماعة «الجماعة» لتعلّق عليها عجزها عن حماية قرارها من تعنّت هذا الطرف وتعسّف الآخر.



أما إذا صحت الأنباء التي تحدثت عن مطاردة آباء قادة تنسيقية الطلبة الأطباء بعد أساتذتهم، وتوقيف بعضهم عن العمل، وإغلاق صيدليات البعض الآخر، فإن مشكلتنا ستكون أكبر من مجرّد إضراب قطاعي، لتعدو مصيبة سياسية وحقوقية. فالتنقيب عن الانتماءات الفكرية والامتدادات الأسرية لشبان مضربين، لا يمكن أن يكون سلوك دولة تدعي لنفسها صفة الحق والقانون.. ابحثوا حينها عن وصفها المناسب في قاموس آخر.

سعادة الرئيس لا لتسييس القضية

سعادة الرئيس لا لتسييس القضية

مراد الكرجاوي
إلى السيد رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد Youssef Chahed
سعادة الرئيس لا لتسييس القضية،
الموضوع مجرد لعبة تحاك خيوطها في دواليب الكاف من طرف موطنين غير شرفاء يمثلون بلدكم،

كل مافي الامر انه تم بشكل او بآخر التلاعب في نتائج مباراة كرة القدم، وهذا ليس بجديد على دولتكم، لكن عندما ظهر الحق أدرتم ظهوركم له وتظاهرتم بالبراءة ولبستم ثوب المظلوم...
أدعوك سيدي الرئيس للوقوف على الموضوع من جهة الانسان، المحايد، الرياضي الغير المتعصب وستكتشف أن الموضوع واضح وضوح الشمس في يوم جميل.
تقبل انتقادي سعادة الرئيس واحكم بالحق، لكن تذكر سيدي أننا سنناضل من أجل شعار رفعناه سلفا

لا ادري عن اي امن و امان تتكلم و كأننا لم نشاهد الفضيحة بكامل تفاصيلها و لا داعي للخوض في خباياها ونتمنى أن تدهبو انتم كذالك الى الطاس لتعمق البحت و يسقط الفساد بالكامل و انتم تدرون اين يوجد المفسدين و اتحداكم حينها ان تفوزوا ولو بالمركز التالت او الرابع
اما عن بعض المتشدقين الدين فتحت لهم الباب سعادة الرئيس لكي يتطالو على المملكة المغربية وعلى الملك محمد السادس بسب وشتم والكلام النابي ادكركم عندما ضرب الارهاب بقوة و مات على اترها العديد من السياح اول من بادر الى زيارة تونس هو دلك الملك الدي تسبونه و قام بزيارة المكان الدي وقع فيه الارهاب و تجول بدون حراسة ليوصل للعالم انه حادت عابر لكن هحيح ما يقوله اخواننا المصريين اللي اختشوا ماتوا لكن النفاق و نكر الجميل ليس بجديد عليكم و العالم يعرف من انتم تحياتي للمغاربة الاحرار الدين سيردون الصاع صاعين .وتحية للاشقاء التونسين الدين الذين قالو اللهم إنا هذا منكر في الضلم الدي تعرض له فريق الوداد وجمهوره
لتدكير انا رجاوي حت نخاع ولست ودادي ولكن قول الحق هوا من تربينا عليه في المملكة المغربية التي تطاولت على امنها ياسعادة الرئيس

حزب الدولة.. البدايات والمآلات؟

حزب الدولة.. البدايات والمآلات؟

عادل بنحمزة

ما يشهده حزب الأصالة والمعاصرة، وبغض النظر عن الأسلوب واللغة المستعملة بين مختلف الأطراف، يُعتبر لحظة تحول في مسار الحزب، دون أن يكون لهذا التحول بالضرورة أي مضمون إيجابي، إذ إن الأيام والشهور المقبلة هي الكفيلة وحدها بكشف المسارات التي يمكن أن تتخذها المواجهة الحالية، وهي مواجهة تتسم بخصائص منها:

أولا: لا نشهد اليوم تقاطبا بين الأعيان والأطر القادمة من اليسار، بل نحن أمام تشوه في التحالفات الداخلية، إذ في كل جهة نجد طرفا من الأعيان وطرفا من القادمين من اليسار، وهو ما يرفع أي إمكانية للحديث عن خلفية إيديولوجية تؤطر المواجهة الحالية.

ثانيا: غياب نزعة مواجهة “ترييف” الحزب، إذ إن المواجهة الحالية تشهد انقساما في كتلة الريف داخل الحزب، ففي كلا الجانبين نجد منتمين إلى الريف.

ثالثا: الصراع يبدو محض تنظيمي وفق شعار يحمله كل طرف، وهو “كل شيء أو لا شيء”، إذ لا نجد تقديرات سياسية مختلف بشأنها سواء فيما يتعلق بمواقف الحزب من القضايا العامة، أو في تموقعه السياسي اتجاه الحكومة، وهو ما يجعل الصراع الحالي لا يحظى بمتابعة كبيرة لدى الرأي العام.

رابعا: لا يمكن لحزب الأصالة والمعاصرة أن ينفصل عن لحظة التأسيس أو خطيئة التأسيس بتعبير كثيرين ممن تابعوا مسار الحزب، والتي تجعله حزبا مرتبطا بالدولة والدور الذي أسس من أجله، البعض يعتبر أن الحزب فشل في تحقيق هذا الدور، لكن الحقيقة هي أن الدولة وليس الحزب، من فشل، فمثل هذه الأحزاب ووفقا للتجربة السياسية المغربية وتجربة تأسيس “الحزب الأغلبي” لا تؤسس لتكون بديلا عن الدولة، فطبيعة النظام السياسي لا تحتمل ذلك، بل فقط للتغطية على ما تقوم به الدولة وأجهزتها، والخدمة هي الواجهة الديمقراطية وإفراغ التعددية الحزبية والسياسية من معناها، لذلك فالمواجهة الداخلية الحالية أمام صمت الذين يتحملون فكرة تأسيس الحزب، ليست سوى مشهدٍ يمثل “قُدَّاساً” للتطهر الجماعي من خطيئة التأسيس وترك الحزب يواجه مصيره ويختبر مناعته الذاتية إذا كان يتوفر عليها، خاصة وأن اللحظة الحالية ليست لحظة استحقاقات انتخابية، علما أن هناك استثمارا انطلق في حزب التجمع الوطني للأحرار منذ “البلوكاج” الشهير، لهذا لا يمكن تصور دخول مشروعين للدولة بالحجم عينه في مواجهة انتخابية ،الهدف منها هو وضع حد للنجاح الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، هذه الوضعية تضعنا أمام احتمالين: الاحتمال الأول هو أن تكون الجهة التي أشرفت على تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة قد أجرت نقدا ذاتيا، ووقوفها على الحياد فيما يجري اليوم داخل الحزب، معناه أنها تتخلص من وزر البدايات وأن بصمتها تشجع على تفكيك الحزب ليصير حزبا عاديا كباقي الأحزاب التي أحدثتها الدولة في سياقات مختلفة، ثم أحيلت على الهامش. الاحتمال الثاني يقوم على فرضية أن مشروع حزب الأصالة والمعاصرة لازال قائما، لكن المرحلة تحتاج إلى واجهة جديدة أو مجددة، بحيث يصبح من الضروري أن يتوارى حزب الأصالة والمعاصرة إلى الوراء لتجريب الوصفة الجديدة/القديمة، وعلى هذا المستوى يمكن القول بأن الحزب يمكن أن يُحتفظ به في الحد الأدنى لمرحلة أخرى في نوع من تبادل الأدوار بين الأحزاب الإدارية.

هذه الاحتمالات، وبغض النظر عن أي منها، هي الأرجح، فهي تؤكد حجم إهدار الزمن السياسي الذي عرفته بلادنا منذ 2009، وما رافق ذلك من ممارسات عادت بها عقودا إلى الوراء، وما أضاعته من فرص سواء في استثمار زخم ما سُمي بالانتقال الديمقراطي أو مسار الإنصاف والمصالحة، الخسارة ليست خسارة حزب، بل خسارة وطن…

كوهلر الصحراء

كوهلر الصحراء
عبداللطيف وهبي

“حتى أعظم حيتان البحر ليس لديها أي قوة في الصحراء” كونفوشيوس

أعلن كوهلر عن استقالته من تدبير مفاوضات ملف الصحراء المغربية، كما سبق لغيره من الوسطاء الأمميين السابقين، ذلك أن الصحراء ملف معقد وعنيد، تختلط فيه تموجات التاريخ وصمود الجغرافيا وتتقاطع فيه المصالح، لذلك يصعب إيجاد حل دون المرور على شفرة حادة.

لماذا إذن، أعلن كوهلر استقالته؟ وهل حقا الوضع الصحي هو السبب الرئيس؟ وإذا كان كذلك، فلماذا تأخر هذا القرار؟ ثم لماذا فضل كوهلر الاستقالة من ملف الصحراء بدل إعلان الفشل، وهو صاحب التربية الدينية، الحامل لمشاعر تجربة اللجوء وشهادة آلام الحرب، وعبء المعاناة الحقيقية قبل الوصول إلى موقع رئيس دولة؟

إن رؤساء الدول لا يقبلون الفشل إلا بتطويع من خلال المرض أو أشياء أخرى، وكوهلر شخصية ذات مراس صعب، عانى من عدم وجود رؤية جريئة للأمم المتحدة في ملف الصحراء الذي ظل في دهاليزها يراوح مكانه، أو على الأقل رؤية واضحة للأمور، ثم عانى بسبب اختلاف مصالح وحسابات ومواقع الأطراف، وعانى كذلك بسبب تباين الرؤى بين السياسي المغرب والعسكري الجزائر.

فالجزائر مثلا لم تكن دولة إلا بعد الاستقلال، وحين حصلت على استقلالها، انتقلت السلطة بها إلى يد الجيش، وأصبح الجهاز الإداري كله وسيلة في يد نظام عسكري، في حين أن النظام السياسي في المغرب مختلف. إذ بُني على ملكية منفتحة، حيث كان الحسن الثاني في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يبني دولة مغربية حديثة بمؤسساتها وأجهزتها، بدءا بالعهد الملكي، إلى دستور 1962 ودستور 1970، وصولا إلى خلق الأجهزة وبناء المؤسسات الدستورية، السياسية والمدنية والثقافية، كما العسكرية. قد تكون على مقاسه، ولكن في آخر المطاف هي مؤسسات دولة، قَبِل بالصراع في مجال السياسة، حين رحب بالمعارضة كقوة سياسية، تارة يقمعها، وتارة أخرى، يغض الطرف عنها، بينما كان الجيش في الجزائر يقبض بقوة النار على كل مفاصل السلطة، وإلى يومنا هذا مازال الخلاف مع الجيش، لذلك من الصعب أن ينجح الحوار بين دولة مدنية سياسية في المغرب لها جيشها، وبين جهاز عسكري في الجزائر له دولته.

ويبدو أن كوهلر أصبح مدركا لهذه الصعوبات، بل فهم جيدا أن لموريتانيا وجبهة البوليساريو دور محدود في هذا الحوار غير المتكافئ، لذلك كان عليه أن يُخرِج المفاوضات من المجال الرباعي “المغرب، الجزائر، موريتانيا والبوليساريو”، إلى المجال الثنائي المباشر “المغرب والجزائر”، وآنذاك، يبحث عن لغة الحوار بين المدنيين في المغرب والعسكريين في الجزائر.

ولكي نكون صريحين وواضحين، نقول إن الجزائر التي تختفي وراء جبهة البوليساريو، هي الطرف الحقيقي في مواجهة المغرب، فهي تتعامل مع قضية الصحراء بعقلية عسكرية لخدمة أهداف جيواستراتيجية مرتبطة بتصفية حسابات تاريخية أو امتدادات جغرافية للمحيط الأطلسي، وأما موريتانيا، فقد ظلت تسبح بين المواقف والمواقع والمفاوضات التي لا تعنيها.

أما المغرب، فظل يتعامل مع قضية الصحراء كموضوع وطني، وقضية إجماع وامتداد طبيعي في التاريخ والجغرافيا والإنسانية، ويتعامل معها كمدخل رئيس لبناء المغرب العربي اقتصاديا وأمنيا ومؤسساتيا، بينما الجزائر تجد في ملف الصحراء وسيلة لتلبية رغبة الهيمنة، وللحد من قوة المغرب جغرافيا، وتطويقه شرقا وجنوبا على شاكلة البرتغال، والحد من دوره في المغرب العربي، بل تحجيمه دوليا ودبلوماسيا بقوة البترول والدولار. لذلك، وجد كوهلر نفسه أمام هذا الخليط الذي لا يمكن معالجته باتفاق فريد، لكون الدبلوماسي والسياسي عموما، يرى في الاتفاقات والتنازلات عملية سياسية طبيعية، بينما يرى العسكري في التوافقات هزائم عسكرية حتى ولو تمت بشكل سلمي، لاشتغاله بمنطق إما الاستسلام أو الانتصار، عكس منطق المغرب “عطاء وأخذ”، وهذان المنطقان مختلفان، لذلك وُضع كوهلر أمام سؤال حارق، إذ كيف له وهو السياسي المعتز بألمانيته، الذي تربى في أحضان الكنيسة، المنتمي إلى دولة تمنحها قوتها الاقتصادية نوعا من الثقافة السياسية المستقلة، أن يتعامل مع كل هذا الخليط؟

في الحقيقة، لقد اشتبكت أمامه الخيوط، تارة تجد منطلقاتها في أمريكا، قبل أن تنتهي في فرنسا، وتارة أخرى تتحول من جنوب إفريقيا لتجد نهايتها في العالم العربي، وأخيرا في الخليج. أمام كل ذلك شعر كوهلر بأنه يضيع الكثير من الوقت والجهد، وفي آخر المطاف سيجد أن كل ما فعله، هو المزيد من تعقيد هذا الملف.

لذلك تجد أن كل الوسطاء الأمميين ضيّعوا الكثير من الوقت فقط، ليستوعبوا الخلاف، وحينما يكتشفون أنه وهمي، يستقيلون، لذلك مهما استهلكت قضية الصحراء من وقت، ومن وسطاء سابقين، وآخرين لاحقين، فستظل قضية وهمية، عصية الفهم على الآخر، أما بالنسبة إلى المغرب، فهو على الأرض، يملك التاريخ ويسير فوق الجغرافيا بخطى ثابتة، على عكس من يغرق في تفاصيل خطط سياسية، لكن بعقلية عسكرية.

اعترافات صحافي سلطة

اعترافات صحافي سلطة
سليمان الريسوني
«سيدتي.. أنا أعرف وأقدر معاناتك.. ولم يحدث أن شككت فيها، وإذا صدر عنّا ما يسيء إليك.. فإنه صدر في ظروف لم نكن نحكم فيها في أمرنا ولا في إرادتنا ولا في الجريدة أصلا… أنا شخصيا كنت أشعر يوميا بالذل والاضطهاد والظلم.. لكنني كنت «أبلع السكينة بدمها» لعدة أسباب، أهمها أنه لا حول لي ولا قوة، ولا أستطيع مواجهة دولة بوسعها، بكل بساطة، أن «تطيّرني بنفخة» فمن أنا؟ ما أنا في نهاية الأمر إلا مواطن عادي.. لذلك، فإن ظلمناك أو أسأنا إليك، أو قلنا فيك عكس ما يجب أن يقال فيك، فإن مثلنا هو التالي: «سألت قطعة الخشب المسمار بقولها: آش بيك يا خويا نازل عليّ وداخل فيَّ؟ أجابها المسمار بقوله: آه يا أختي لو تعرفي أشنو اللي هابط عليّ.. تعذريني».. وكان المسمار يقصد المطرقة.. ونحن كذلك كانت المطرقة تنزل علينا يوميا بصورة من الصور… يا سيدتي، إذا كنت مقتنعة بأن تحطيم صحافي في سني وقدري وتاريخي سينفع المغرب، وسيقدم له خدمة وطنية يستفيد بها، فإنني أقسم لك بأن أتولى تحطيم نفسي بنفسي، وأشعل النار في جسدي على طريقة البوعزيزي.. المهم أن تكوني أنت مقتنعة بأن تحطيمي و«تطييح قدري».. و«تمرميدي» سينفعك أنت شخصيا وينفع الوطن.. لقد أخطأنا في حقك.. نعم.. وسبق أن كتبنا هذا وأعلنا اعتذارنا للجميع، وها نحن نخصك أنت بهذا الإعلان.. فهل هذا يرضيك؟ وهل هذا يكفي؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فإننا على استعداد للانسحاب من الميدان.. ومن المغرب.. وحتى من الحياة…».

هذا نص الرسالة التي بعثها الصحافي التونسي، صالح الحاجة، أحد أشهر الأبواق الإعلامية للسلطة في عهد المخلوع زين العابدين بنعلي، إلى الحقوقية التونسية سهام بنسدرين، يعتذر إليها فيها عن حجم الأذى الذي اعتاد إلحاقه بها، هي وأمثالها من رموز المعارضة التونسية، وهي رسالة كتبها هذا الصحافي بعد أيام من خروجه في إحدى القنوات التلفزيونية التونسية يبكي ويعتذر إلى معارضي بنعلي عن حجم الأذى الذي ألحقه بهم.

لقد نقلت هذا الاعتراف بتصرف قليل من قبيل تعويض تونس بالمغرب، وحذف اسم سهام بنسدرين، الذي يمكن تعويضه باسم الحقوقية خديجة الرياضي، أو زوجة زميلنا توفيق بوعشرين، أسماء الموسوي، التي تتعرض، هذه الأيام، لحملة تشهير بئيسة، لا لشيء سوى لأنها لم تتخل عن زوجها في محنته، مكسرة بذلك أفق انتظار مهندسي اعتقاله الذين توهموا، وهم يعدون هذا الملف المرعب، أنها قد تصدقهم وتنساق خلف روايتهم المتهافتة. يمكن تعويض بنسدرين، أيضا، بأسماء عشرات الصحافيين والحقوقيين والسياسيين الذين يجدون أنفسهم، يوميا، عرضة لحملات التشهير القذرة من لدن إعلام الاستعلام الغارق في بحبوحة المال والسلطة.

لقد عدت إلى هذه الشهادة القوية لأبين لمسؤولي إعلام الاستعلام عندنا، ما الذي سيحدث لهم عندما سيضع المغاربة حدا للصحافة التي تتلقى المال العام للاعتداء على الحياة الخاصة للمغضوب عليهم وأفراد عائلاتهم. وهذا، بحول لله وإرادة الشعب ومنطق التاريخ، آتٍ، طال الزمن أم قصر. وحينها سيضمحل كثير من «الصحفجية» الذين يجمعون بين الخبر والاستخبار، ويقايضون الإشهار بالتشهير، لكن بعضهم، ممن لم يراكموا ما يكفي من ثروة تمكنهم من العيش خارج مهنة الصحافة، سيضطرون إلى الاعتذار، وكشف تفاصيل الأدوار القذرة التي كانوا يضطلعون بها، مثلما خرج مدير جريدة «الصريح» التونسية، صالح الحاجة، يبكي ويقول إن المقالات اللاأخلاقية التي كان يستهدف بها الحقوقيين والسياسيين المعارضين للرئيس المخلوع، كانت تأتيه مكتوبة من وزارة الداخلية.

والحقيقة أننا لن ننتظر انتقالا حقيقيا نحو الديمقراطية في المغرب، وفطما تاما لإعلام السلطة عن ثدي المال المشبوه، لنعرف كيف تدور عجلة إعلام التشهير، بل إننا نجد يوميا صحافيين، وأحيانا رؤساء تحرير، في واحدة من هذه الجرائد والمواقع البئيسة، يعتذر إلى زملائه قائلا: «أنا لا دور لي في نشر مواد التشهير، وإن المكلف بذلك هو المدير، أو المدار به، الفلاني الذي يتلقاها من الجهة الفلانية». ولعل هذه خصوصية مغربية، حيث يتعايش الإصلاح والفساد، والنضال والاختلال، في الحزب نفسه والنقابة نفسها والجريدة نفسها، والحكومة ذاتها التي تجد فيها وزيرا يحمر ويخضر وهو يحمل مسؤولية اختلال في قطاعه إلى «الفوق»، بل حتى داخل الجهاز الأمني الواحد تجد من لا يرضى عن كثير مما يقوم به زملاؤه، ويحاول تداركه، وكلكم يعرف حكاية الغريب الذي طرق باب حسن طارق يحذره، عبثا، مما يحضَّر ضد صديقه توفيق بوعشرين. لقد حكى لي الزميل الصحافي كريم البخاري، ابن عميل الاستخبارات أحمد البخاري، الذي ارتبط اسمه باختطاف واغتيال المهدي بنبركة، أنه تربى في بيت يُذكر فيه المهدي بنبركة بصفته مثلا أعلى ورمزا للطهارة والنقاء، وأن والده وزملاءه السابقين في «الكاب 1» كان لهم ارتباط وجداني بالمهدي بنبركة، وأنهم كانوا يتحدثون عنه بتقدير عال. زملائي في صحافة التشهير، لا تشغلوا بالكم بلحظة الاعتراف، الآتية حتما، فأعمالكم تشهد عليكم وزملاؤكم ينوبون عنكم في ذلك. تأكدوا فقط أنكم ستكونون، مثلما قال المتنبي، كصالح في ثمود، وكالمسيح بين اليهود.

كل في هَمِّهِ سارح

كل في هَمِّهِ سارح


«المغاربةُ قدْ يتحمّلون الفقر، لكنهم لنْ يصبروا على الظلم».

هذا ما كان عبدالإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق، يردده باستمرار، متفاخرا خلال ولايته الحكومية، ومؤكدا أن المغاربة مرتاحون للنفس الديمقراطي الذي أصبحت تعيشه البلاد منذ 2011.

قبل أربع سنوات من الآن، وبالضبط سنة 2015، كانت استطلاعات الرأي تقول إن: «80 في المائة من المغاربة مرتاحون لحكومتهم ورئيس حكومتهم». أما اليوم، مؤكد أن استطلاعات الرأي – إن أجريت- ستحمل خبرا «صاعقا» للرأي العام الوطني.

موجة الربيع العربي وخطاب 9 مارس 2011 التاريخي، ودستور المملكة الجديد وحكومة بنكيران “الشرعية”، التي أفرزتها انتخابات 2011 النزيهة، كلها أحداث رفعت من منسوب تفاؤل المغاربة بمغرب جديد، وأفق سياسي أرحب، داخل جغرافيا الوطن الواحد، خاصة عندما لامس الشباب المغربي الفعل والنقاش السياسي لأول مرة في حياته، واختار ممثليه بديمقراطية لطالما افتخرنا بها حينها، وعبر المغاربة عن آرائهم بحرية، واحتجوا بطرق مختلفة، كما لم يفعلوا من قبل.

اليوم، كل شيء تغير، بعد انتخابات السابع من أكتوبر 2016 و”البلوكاج” السياسي الذي أفقد المغاربة الأمل في الانتقال الديمقراطي، وضرب الإرادة الشعبية عرض الحائط، تبدو كل المجهودات التي يحاول البعض بذلها للتغيير متجاهلا محطة “البلوكاج”، مثل نفخ الهواء في رئتي رجل ميت، خاصة ونحن نلحظ النقاش الدائر حول معركة الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، التي تستأثر باهتمام الأحزاب السياسية المرشحة لتصدر نتائجها.

«كل في همه سارح»، هذا هو الوصف اللائق بما يعرفه المغرب حاليا، ففي الوقت الذي نسجل فيه توالي الخرجات الإعلامية لقياديي بعض الأحزاب المراهنة على كسب رهانات عام 2021، الموسومة بوعود بعض، وادعاءات بعض امتلاكَ مفاتيح تغيير أحوال المغاربة بمجرد الدخول من باب الانتخابات التشريعية المرتقبة لرئاسة كرسي الحكومة، تنسى -هذه الأحزاب- أنها ستخوض انتخابات على إيقاع مختلف، خصوصا بعد «بلوكاج» حكومي مصطنع، تلاه إعفاء عبدالإله بنكيران رئيس الحكومة المعين وقتها، وبعد حراكات اجتماعية بعديد مناطق المغرب، انتهت باعتقالات لشباب وصحفيين، تلاها إصدار أحكام قضائية في حقهم، أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها قاسية، بينما مغاربة ما بعد السابع من أكتوبر 2016، أغلبهم يعيش في دوامة وتيه وانعدام ثقة، وتفكير في أولوية صناعة المستقبل الفردي بعيدا عن “الصناعة التقليدية” لواقع معاش متحكم فيه من طرف جهات يبدو أنه لا مكان لمصطلح الديمقراطية والإرادة الشعبية في قواميسها.

بالتأكيد، ليس عيبا أن تتنافس الأحزاب للفوز بالاستحقاقات المقبلة، وأن تضع نصب أعينها من الآن صدارة الانتخابات، لكنه من العيب بمكان أن لا تقر – مؤسسات الوساطة- بالحالة المتردية التي تعرفها الممارسة السياسية في بلدنا، وأن لا تصرح بتأخر الفاعل السياسي في استعادة المبادرة للدفاع عن الخيار الديمقراطي الذي ارتضاه المغاربة لهم ثابتا من ثوابت دولتهم، وأن تصمُت عن الاعتراف بمسؤولية الجميع أحزابا وسلطات في كل ما وقع بعد انتخابات السابع من أكتوبر من تراجعات إلى اليوم، كل من زاويته.

إن إنجاح محطة 2021، رهين بمدى إرادة الدولة على تجاوز «الأزمة السياسية» التي يتخبط فيها البلد، عبر إطلاق سراح المعتقلين، وتعزيز بناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات، عن طريق الإعمال السليم للدستور وتفعيل مبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومحاربة الفساد باعتباره وجها من أوجه الظلم الذي يطال جزءا كبيرا من أبناء الشعب المغربي، ولملمة الجراح، عبر الدفع بخيار المصالحة، وتغليب مصلحة الوطن على منطق الردع وتقليم الأظافر، وتمكين الأحزاب السياسية من القيام بأدوارها التأطيرية، لتلعب مجددا دور الوساطة المنوط بها بين مكونات المجتمع ومؤسسات الدولة.

هل ولى زمن الديمقراطية ؟

هل ولى زمن الديمقراطية ؟
حسن أوريد

انتكاسة الديمقراطية في العالم العربي ترتبط بأسباب موضوعية وليس بنيوية فقط، ومنها ضعف المرجعية الفكرية للقوى الديمقراطية، وغياب تصور مجتمعي وبديل اقتصادي، فضلا عن تشتتها وانغمارها في قضايا هامشية، أو تغليب المسارات الفردية على المآلات المجتمعية.

هل أصبح العالم يعيش احتباساً ديمقراطياً على شاكلة الاحتباس الحراري، كما يقول المؤرخ الأمريكي روبرت دارتن Robert Darton، الذي اعتبر ظاهرة ترامب شبيهة بخرق طبقة الأوزون، تهدد التوازن السياسي، على مستوى السياسة الداخلية بإعطاء دفعة للاتجاهات اليمينية الشعبوية، وكذا على مستوى العلاقات الدولية بتغليب منطق القوة على الدبلوماسية والقانون؟ هل نحن مقبلون على تغيير في المناخ السياسي، كما التغيير المناخي الذي يطال الكرة الأرضية ؟

إلى هذا ينحو تقرير المنظمة العالمية "بيت الحرية" Freedom House الذي صدر الشهر المنصرم (أبريل2019). فحسب هذا التقرير، فإن مؤشرات الديمقراطية توجد في أسوأ صورها، سواء من خلال عناصر نزاهة الانتخابات أو حرية التعبير، أو وضع الصحافة، أو حقوق الإنسان، أو أوضاع الأقليات الدينية، أو حرية المعتقد.

يختلف الوضع الحالي في العالم عن الصورة الزاهية التي برزت سنة 2003 والآمال التي رافقتها في أن يتخذ مدّ الديمقراطية منحىً تصاعدياً. عادت الأوتوقراطية في العالم، بنسب متفاوتة، و استعادت اليد الحديدية رونقها.

أما الحالات التي ولو ظلت ديمقراطيات، فقد شهدت عودة ظاهرة الرجل القوي، ناهيك عن الأوضاع التي تتعارض جهاراً مع قواعد الديمقراطية من أوتوقراطيات لا تعرف الانتخابات، ولا المؤسسات، ولا الأحزاب، ولا حقوق الإنسان.

في ذات الوقت يشهد العالم، بما فيه معاقل الديمقراطية، بروز ظاهرة جديدة وهي الشعبوية التي تتغذى من الأزمة الاقتصادية، والشك الذي يتوزع المجتمعات، والتوتر الذي يطبعها، سواء أكان سافراً أم خفياً.

عودة اليد الحديدية أو الأوتوقراطية أمر مُغر لعدة أسباب، منها أولاً طبيعة الديمقراطية التي لا تتسم بالضرورة بالفعالية. فتوزع مراكز السلطة، وتعقد إجراءات اتخاذ القرار ما بين سلطة تنفيذية وأخرى تشريعية، يمنح للأنظمة القوية امتياز الفعالية.

ويضاف إلى هذا العيب الجنيني أو الأصلي للديمقراطية، سياقٌ جديد يتسم بشيوع الخوف من المستقبل وبروز أخطار جديدة، منها الإرهاب والهجرة وقضايا البيئة. الطبيعة المعقدة لهذه المشاكل، وأثرها المباشر على أمن المواطنين وسلامتهم، حاضراً ومستقبلاً، يفترض سلطة قوية تُغلّب النظام على الحرية التي قد تقترن بالفوضى.

ويضاف إلى ذلك، الوسائل الحديثة للتواصل التي برزت كروافع للمطالب الاجتماعية كما وسائل التواصل الاجتماعي، والفيس بوك والإنترنت، وتحولت بعدها إلى وسائل لقولبة الرأي العام، والشعبوية، والأخبار الزائفة، والتضييق على الحرية، من خلال إمكانية الرصد والتتبع من لدن السلطات الأمنية. أصبحت حرية الرأي والتعبير تشكو انزلاقات، بما قد يطبعها أحيانا من ضحالة وغلو وزيغ، مما يسيء لمبدأ لا تستقيم الديمقراطية من دونه.

يظهر انتكاس الديمقراطية جليا في العالم العربي، بعد الآمال التي فتحها "الربيعالعربي" مع عودة السلطوية والطائفية، مما قد يغذي الانطباع من أن عوائق ثقافية بنيوية تقوم ضد انتشار الديمقراطية بهذا العالم بالذات.

الاتجاه العام يتسم بعودة السلطوية أو ما يسميه البعض بزمن الاستبداد في لبوس جديد، سواء أتعلق الأمر في معاقل الديمقراطية، أم في الدول التي تعرف تحولات عميقة وتعبّر قواها الحية عن تعطش للديمقراطي، مع ما تعرفه من انتكاسات. فالثورات التي عرفها العالم العربي، ما لبثت أن أعقبتها ثورات مضادة.

الواقع المرير للديمقراطية، لا يعني تجاوزها، فهي الأقل سوءاً، حسب المقولة المأثورة لونستون تشرشل، "إيجابياتها من سلبية الأنظمة الأخرى". وقد تتميز أنظمة غير ديمقراطية بإيجابيات على المدى القصير، لكنها تنطوي علي عيوب عظمى على المدى الطويل، ومنها الحِجر على المجتمع وما يترتب على ذلك من خنوع أو توتر مستتر، قد يتطور إلى توتر مكشوف واصطدام.

تاريخياً، وعلى مدار أقل من نصف قرن من الزمن، اكتسحت الديمقراطية معاقل عدة ، مما جعل مدّها في صعود، رغم انتكاسات طارئة، وهو ما يجعلها الأقرب إلى الطبيعة البشرية التي تأنف من السلطوية، ومطابقة لمسلسل التاريخ.

يظل وهج الديمقراطية مُتّقداً في العالم العربي، في حركية المجتمع المدني وحراك الشارع، رغم قوى المقاومة أو الفلول كما تسمى في مصر. قد تجد السلطوية مبررها بالنظر إلى ما عرفه "الربيع العربي" من انتكاسة للديمقراطية، لكن هذه الانتكاسة ترتبط بأسباب موضوعية وليس بنيوية، ومنها ضعف المرجعية الفكرية للقوى الديمقراطية، وغياب تصور مجتمعي وبديل اقتصادي، فضلا عن تشتتها وانغمارها في قضايا هامشية، أو تغليب المسارات الفردية على المآلات المجتمعية، ناهيك عن التدخلات الأجنبية التي سعت وتسعى لإجهاض مسار التحول الديمقراطي.

ومما قد يسيء للديمقراطية هو أن تقترن بصورها لا بروحها. فنحن ندرك أن الانتخابات ليست هي الديمقراطية، كما أن الدستور ليس صنوا لتوازن السلط. بل قد تكون الانتخابات والدستور إحدى أهم الأدوات للإجهاز على الديمقراطية.

تفترض الديمقراطية قيام مؤسسات راسخة ومستقلة، من قضاء وإدارة، مع شيوع حالة القانون، وإلا ستكون الانتخابات تمرينا للإلهاء والتنفيس. كما تفترض كذلك وجود ثقافة ديمقراطية، تقوم على المنزع النقدي، والشك والحوار، واحترام الأقليات، وعدم النظر إليها بمنظر حسابي أو ديكتات الأغلبية، أياً كانت هذه الأقليات، دينية، أو إثنية أو لغوية أو ثقافية، مع المساواة ما بين الجنسيين، من غير الزعم بخصوصية ثقافية، أو استثناء من أي نوع كان، أو الاستناد على تأويل رجعي للنصوص.

إن الاتجاهات الكبرى في العالم لم تبرز فجاءة، بل من خلال مسار طويل، اكتنفه مد وجزر. ليست الديمقراطية في أحسن وضعها، بل ليست في أحسن تعبير لها، لكنها مسار لا رجعة عنه. بيد أن هذا المسار لا يُختزل في تنظيم انتخابات أو مؤسسات صورية، أو واجهات، بل يقوم ضمن ما يقوم عليه على مؤسسات مستقلة وفكر نقدي.

إن تَحوّل الفعل السياسي إلى الشارع مؤشر على فشل المؤسسات الوسيطة. قد يغري ذلك السلطات باللجوء إلى المقاربات الأمنية من أجل كبح غلواء الشارع، لكنها لن تستطيع أن تكون حلا على المدى الطويل.

فرغم الانتكاسة التي تعرفها الديمقراطية في العالم مع عودة الاتجاهات اليمينة والشعبوية والسلطوية، فإنها مد لا مُنتدح عنه لأنها هي ما يعبر عن سيادة الشعب. ولن يكون العالم العربي استثناء من هذا المد الذي يستجيب ومسلسل التاريخ.

الجيش والسلطة في العالم العربي

الجيش والسلطة في العالم العربي


المعطي منجب

لما ينظر الإنسان إلى التاريخ السياسي المعاصر لبلدان منطقتنا، يتبدى له بوضوح أن هناك قوتين اجتماعيتين تحكمتا في مقدرات الدولة المادية والاجتماعية ولعبتا فيها دور البلعمة (Phagocytosis) أي أنهما نمتا مع نموها وابتلعتا بطريقة مرضية مكوناتها وعناصر حصانتها. وهاتان القوتان هما:
ـ الجيش كما هو الحال في مصر والسودان والجزائر وسوريا وغيرها.

أما القوة الثانية فهي ما يمكن أن نسميه «المنظومة التقليدية» التي قد تتمظهر في شكل عشيرة كما هو الحال في السعودية أو مجموعة أرستقراطية ذات أخطبوط زبائني منفتح على كل فئات المجتمع كما هو شأن المخزن المغربي أو التحالف «البدوي ـ الأميري» بالأردن.

هكذا فإن الجيش في مصر يتحكم في حوالي أربعين في المئة من الاقتصاد وأكثر من ذلك فيما يخص الاقتصاد الاجتماعي. فهو جهاز إنتاج قائم الذات إذ يتحكم في قطاع البناء والأشغال العمومية وخصوصا الطرق والقناطر والموانئ والمطارات وما إلى ذلك.

إن الجيش يصنع السلاح والأطعمة والتجهيزات الإدارية والمنزلية وقطع غيار السيارات ومعدات الفلاحة والملاحة الجوية. الشباب المجند وهو قوة انتاجية ضخمة بيد الجيش لا يتلقى في الغالب ألا أجورا تافهة ولكنه يتشبع رغم ذلك بإيديولوجية أن الجيش هو الدولة ومن يعارض الجيش يخون الوطن. وقد يتحول على الأقل جزء من هذا القطاع الاجتماعي «المتعسكر» والذي ترتبط مصالحه المباشرة بمصالح الجيش إلى قوة سياسية ضاربة تعد بالملايين إذا أضفنا إليها أعضاء الأسر ومتقاعدي الجيش والأمن وكل من اشتغل ولو مؤقتا ضمن هذا القطاع المتعسكر. فكل هؤلاء يشعرون رغم فقر وهامشية الجزء الأكبر منهم أن لديهم امتياز الارتباط الزبائني بالجيش ورجالاته الأقوياء الذين يسيطرون كذلك على الإدارة الترابية. فإن لم تكن تعرف جنرالا أو عقيدا فإنك على علاقة بمقدم أو ملازم أو عريف يتوسط لك للحصول على وثيقة إدارية أو منحة دراسية لابنك أو عقد عمل مؤقت أو لولوج مخيم صيفي شبه مجاني لأسباطك. هكذا تتم يوميا وعلى نطاق واسع عملية البلعمة غير الطبيعية ولكنها لطول استمرارها تنتهي لتصبح شيئا عاديا تماما في أعين أغلبية الناس.

قلنا أعلاه أن هذا الخليط البشري المرتبط بالجيش قد يصبح قوة سياسية قابلة للتعبئة وللاستعمال في المناورات السياسية كبرى ضد المجتمع المدني والسياسي المستقل وهو ما حدث مثلا في مظاهرات نهاية يونيو وبداية يوليو بمصر سنة 2013 للإجهاز على الديمقراطية الناشئة والمتعثرة.
هذا التحكم الانتفاعي للجيش المصري في الاقتصاد أصبح مع مر السنين ومع تبلور العسكر كفئة اجتماعية، هو المحدد الأول لموقفه السياسي وليس الأمن القومي كما يتخيل البعض. ولنعطي مثالا واضحا وقريبا منا على المستوى الزمني: تؤكد الباحثة شانا مارشال أن حكومة الإخوان المسلمين أذعنت في البداية إلى العديد من الضغوط والمطالب الاقتصادية للجيش وأن أصل الخلاف الذي سيؤدي إلى الإطاحة بالرئيس محمد مرسي كان هو رفض الجيش لتهميشه «في المشاريع الكبرى مثل تطوير قناة السويس ومشروع «توشكا» وهو مشروع لاستصلاح الأراضي». هاته المشاريع كانت ستضيع على الجيش مليارات الدولارات إن تم تسييرها من لدن الحكومة المدنية.

وجشع الجيش اللامحدود سيبرهن عليه الثمن الذي أدته المملكة السعودية وبعض دول الخليج له للقيام بالانقلاب على الحكومة الإخوانية المنتخبة والذي يقدر بعشرين مليار دولار.

أحيانا الجيش لا يتحكم فقط في الصناعة والبناء كما في مصر ولكن كذلك في الشركات التجارية الكبرى والتي تدر مداخل ريعية مضمونة ومجزية كما هو الحال في الجزائر وسوريا والسودان. ففي هذا البلد الأخير أصدر الرئيس ـ الماريشال جعفر النميري مرسوما سنة 1982 بتشكيل «التعاونية الاقتصادية العسكرية». يحدد المرسوم أهداف المؤسسة السابقة الذكر في أربع نقط تبدو عادية تماما وهي استعمال الموارد العسكرية الفائضة لدعم اقتصاد البلاد، تجويد عيش أفراد قوات المسلحة وأعضاء أسرهم، تجهيز الجيش بالمعدات والجهوزية اللازمة وتحسين مستوى الأداء الإداري والتقني لأعضاء الجيش.
ورغم أن الأهداف المعلنة للمرسوم تبدو مشروعة وبديهية فإن مآلها تجلى في تحويل الجيش إلى طبقة ذات هوية اقتصادية-اجتماعية قائمة الذات ترتبط مصالحها بشكل بنيوي بمصالح النظام اللاديمقراطي. هكذا ظهرت للوجود ونمت بشكل طفيلي فئة من رجال الأعمال هم في الأصل ضباط استعلامات أو أفراد من عائلاتهم يستغلون بشكل استباقي المعلومة الاقتصادية الحساسة وغير المتوفرة للعموم ـ وهو أمر يمنعه القانون ـ لاستمرارهم في احتكار السوق والفرص كما حدث مع الطفرة النفطية خلال العقدين الأخيرين.

«البام»: أزمة حزب أم أزمة نسق؟

«البام»: أزمة حزب أم أزمة نسق؟

بلال التليدي


لم يكن استشراف تفجر “الأصالة والمعاصرة” صعبا، ليس لأن الأمر يرتبط بخطيئة الولادة، إذ عرفت أحزاب إدارية سابقة، تقريبا الملابسات عينها، ولم يمت منها سوى جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، وهو الآن يشهد مسار التفكك للاعتبارات عينها التي سنفصلها.

أين تكمن المشكلة؟ وإلى ما ترمز؟ هل الأمر مرتبط بمشكلة ذاتية داخل الحزب؟ أم يتعدى ذلك إلى ما يرتبط بالنسق السياسي وتحولاته؟

لفهم هذا السؤال، ينبغي استحضار القواعد التي بُنيت عليها معادلة السياسة، ورصد جوانب الاختلال التي مستها، والأجوبة التي قدمت لإعادة بناء هذه المعادلة.

أطروحة التوازن السياسي، فرضت على مدى أكثر من ستين سنة من ممارسة السياسة في المغرب، خلق أحزاب إدارية، والاعتماد على الأعيان لمواجهة مكونات الحركة الوطنية.

السلطة السياسية كانت تُدرك مخاطر تجميع الأعيان في حزب واحد، وصعوبة تدبير تناقضاتهم، ولذلك، بنت النسق السياسي على منطق الأغلبية النسبية. وحتى هذه الأحزاب خرجت من معطف السلطة، ولا تتصرف من غير إرادتها، لم يكن مسموحا لمقاعدها أن تتجاوز السقف الذي يجر النسق السياسي إلى الأغلبية المطلقة.

كانت هذه هي الآلية التي تضمن توزيع الأعيان على أحزاب إدارية كثيرة، وأيضا على الأحزاب الوطنية ضمن حسابات مخصوصة، وهي ذات الآلية التي كانت تضمن أن تؤول العلمية الانتخابية إلى تأثيث أغلبية نسبية تسهل عملية التحكم في مخرجاتها.

في غياب نص دستوري يؤسس للمنهجية الديمقراطية، لم تكن قضية تصدر الانتخابات تطرح إلا مشكلة سياسية رمزية، فكان ضبط النسق يتم بآلية دستورية تجعل تعيين رئيس الحكومة، غير مرتبط بنتائج الانتخابات، وسياسية، تجعل تزوير الانتخابات، تكتيكا، يلجأ إليه للتخفيف من الكلفة الرمزية والسياسية التي يشكلها تصدر أحد أحزاب الحركة الوطنية للانتخابات.

بعد السكتة القلبية، اقتنعت الدولة بضرورة إحداث تحول جزئي في النسق السياسي، لجهة الإبقاء على الوضع الدستوري عينه غير المكرس للمنهجية الديمقراطية، مع ترسيخ فكرة الأغلبية النسبية، وإمكان أن يقود الحكومة حزب من أحزاب الحركة الوطنية، ووقع تحول آخر في العهد الجديد، لمّا تم القطع مع تزوير نتائج الانتخابات.

هذا التعديل الجزئي اصطدم في نهاية المطاف بتحديات ضبط شكل الأغلبية النسبية، مع انتخابات 2002، فتم تشغيل الآلية الدستورية، لإنهاء حكومة التناوب، وتعيين حكومة إدريس جطو.

مع نتائج انتخابات 2007، وظهور تحدي صعود “العدالة والتنمية”، بدأ التفكير في تعديل جوهري للنسق، لجهة الانتقال من نمط النسبية إلى نمط الأغلبية، نظرا إلى الواقع الذي يفرضه النص الدستوري، والذي رسخ المنهجية الديمقراطية، إذ لم يعد هناك من خيار آخر، لمنع سيناريو تصدر “العدالة والتنمية” إلا بحزب إداري يتصدر نتائج الانتخابات.

هذا الرهان المغامر، فرض تحولات تكتيكية لم يكن من الممكن التحكم في كلفتها، منها على وجه الخصوص سؤال التعاطي مع الأعيان، وهل يستمر خيار التوزيع المتعدد لهم على الأحزاب، أم حاجة الوقت فرضت تركيزهم في “البام”؟

برزت الأزمة في أول تمظهراتها بهيمنة “البام” على الأحزاب الخمسة، لكن لئن الحزب كان يقوده الوزير المنتدب السابق في الداخلية، فقد تم التحكم في الكلفة بآليات سلطوية، ولم تتفجر الأزمة بشكلها المأزقي إلا بعد نتائج انتخابات 2016، وذلك بسبب فشل القيادة في تدبير تناقضات الأعيان التقليديين والأعيان الجدد الذين تمددت مصالحهم بشكل تعدى مصالح الأعيان التقليديين.

في مرحلة وسيطة، كانت قدرة القيادة السابقة (إلياس العماري) على الإيهام بالآليات السلطوية فعالة نسبيا في ضبط تناقضات هذا الركام من الأعيان، لكن مع الفشل في تصدر نتائج الانتخابات، وانسحاب هذه القيادة، ظهر العطب، الذي يبدو في الظاهر مرتبطا بالصراع على القيادة، ولكنه في الجوهر مرتبط بأزمة في النسق.

ولذلك، إذا كانت أزمة “البام” اليوم، تمر من الظروف عينها التي يثار فيها النقاش حول تعديل الفصل 47، وتغيير نمط الاقتراع، فإن الأمر في جوهره يعكس أزمة نسق سياسي، يريد إعادة التطبيع مع منطق الأغلبية النسبية، لكنه، يجد السياق الدستوري، والديناميات السياسية والانتخابية، تعاكسه بسبب غياب حزب منافس للعدالة والتنمية، فلا يجد أي آلية ناجعة سواء لإحداث تغيير جوهري في النسق، واعتماد الأغلبية المطلقة بدل النسبية، أو العودة إلى النسبية مع إزالة محذور تصدر العدالة والتنمية.

في الحاجة إلى نزع رداء المظلومية

في الحاجة إلى نزع رداء المظلومية

حسن حمورو

يحفل تاريخ الصراع السياسي بعدد هائل من نماذج جماعات وتنظيمات، بنت مشاريعها وخطاباتها، وأطرت المنتمين إليها، على فكرة تعرضها للظلم، وجعلت الظلم الممارس عليها، سواء أكان حقيقيا أو ادعاء، وقود تحركها في المساحات التي تشتغل فيها.

يسجل التاريخ، أن هناك من استغل خطاب المظلومية ونسج منها روايات اختلطت فيها الحقيقة والتضخيم، ليبرر بها القتل والإجرام والإبادة، للقضاء على نفوذ وإحلال نفوذ آخر مكانه، أو لتوفير غطاء سياسي بلبوس تاريخي وديني، لممارسات غير مبررة وغير مقنعة، ولعل قيام ما يسمى دولة “إسرائيل”، خير نموذج يقدم في هذا الصدد.

وهناك من رسم مساره نحو حيازة السلطة، والمنافسة عليها، بالتركيز على المظلومية الفردية لزعيم سياسي أو ديني، وجعلها محورا يدور عليه كل شيء، وتمر عبره كل المواقف والقرارات، لضمان قبولها والمضي فيها، وإنجاح عملية استقطاب متعاطفين جدد، وتوظيفهم في المعارك السياسية التي تُخاض باسم الولاء للزعيم المظلوم والوفاء له، ولعل تجربة فرق من الشيعة يمكن أن تكون نموذجا في هذا الصدد.

والمظلومية وإن كانت مشتقة من الظلم الواقع من طرف على طرف آخر، بما هو سلوك مرفوض شرعا وقانونا، لما فيه من اعتداء على الكرامة والحرية، ومنع للاستفادة من كافة الحقوق، فإن المقصود بها هنا هو المعنى المتجه إلى اعتبارها آلية سياسية تستهدف الوعي بالتزييف، وتشل القدرة على النظر من كل الزوايا، وتشكل نفسيات قريبة إلى القطيع، وتلغي ملكة مساءلة الذات، سواء أكانت ذات الأفراد وذات جماعية بالنسبة إلى التنظيمات والجماعات.

إن أكبر مستفيد من المظلومية بهذا التعريف، هو الاستبداد والسلطوية، لأنها توفر لهما خصوما لا يدركون كل أبعاد الصراع معهما، وتكبح لديهم التفكير في تغيير وتنويع مداخل الصراع، وتضخم لديهم نظرية المؤامرة، لدرجة تصوير الاستبداد أكبر وأقوى مما هو عليه، واستبطان أن المعركة معه غير متكافئة، أو أن هزيمته تكاد تكون مستحيلة، فيتم اللجوء إلى المظلومية وجعلها آلية تأطير هروبا من المواجهة المطلوبة والواجبة، ولذلك ينشط خطاب المظلومية ويُستثار وتهيأ له الظروف والشروط في الأنظمة الاستبدادية، التي تجعل من ممارسة أنواع من الظلم على الأفراد والجماعات سياسة ممنهجة، طلبا لاستنبات المظلومية أو ترسيخها في السلوك السياسي داخل فئات من المجتمع.

المؤسف أن كثيرا من التنظيمات أحزابا وغيرها، تبتلع الطعم بسهولة، وتجنح قياداتها إلى التغطية على عجزها عن الإدراك النافذ، وعن توليد خطاب مقاوم ومنتج، بجعل المظلومية أطروحة قيادة، لكن لسوء حظها، تنكشف حقيقتها كلما وصلت إلى مواقع الاحتكاك المباشر مع السلطة، ومع أدوات الاستبداد، وهنا يظهر معدن هذه القيادات، وحقيقة الأدوار التي تقوم بها!

تقول الخبرة التاريخية، إن الشعوب لا تستفيد شيئا من خطاب المظلومية، بل على العكس تفرض عليها إعادة إنتاج التاريخ، وتطيل أمد الظلم الممارس عليها، وتمنح الاستبداد سواء أكان مصدره من السلطة، أو من النخب المسلطة عليها، فرصا إضافية، وتبعد المسافات بينها وبين تحقيق حلمها في الحرية والديمقراطية والعدل، ولذلك تحتاج الشعوب، وعلى رأسها الأفراد الذين ينتمون إلى التنظيمات والأحزاب السياسية، إلى نزع رداء المظلومية، للتمكن من مواجهة الأسئلة الحقيقية بجرأة وشجاعة، خارج الإطارات المرسومة وبعيدا عن الأجوبة الجاهزة، ودون كوابح، وإعادة الاعتبار إلى ملكة وواجب مساءلة الذات ونقدها، فلربما تكون أسباب استمرار التحكم فيها وسلبها حقوقها ذاتية.

سيناريوهات الجهة وتكلفتها

سيناريوهات الجهة وتكلفتها


بشري ايكيدر

في إطار المساهمة في النقاش الدائر حول مصير جهة كليميم واد نون آثرت مشاركتكم بعض الأفكار.
إن الخروج من وضعية الجهة الموقوفة يضعنا بالضرورة أمام أربعة سيناريوهات:
1- سيناريو التمديد؛ وهو سيناريو يبقى واردا بقوة، رغم أنه غير ديمقراطي منذ البداية، بسبب غموض التفسيرات التي أدت إلى التدخل المباشر لوزارة الداخلية في وضع مجلس الجهة في غرفة الإنعاش.
2- سيناريو رفع التمديد؛ وترك الرئيس المنتخب/الموقوف يمارس مهامه في انتظار أن يفشل في تسيير المجلس فيعمد المشرع إلى عزله بشكل مبرر قانونا، ومخطط له سلفا.
3- سيناريو استقالة الرئيس المنتخب/الموقوف؛ وفي هذه الحالة، سيكون الفرقاء مضطرين للتوافق حول صيغة توافقية لإنهاء الولاية الحالية، والمسارعة إلى الإبقاء على "ما تبقى من ماء وجه الجهة" إن بقي فيه ماء.
4- سيناريو حل المجلس والدعوة لانتخابات جهوية مبكرة؛ وهو سيناريو يستدعي مجموعة من الوضعيات التي لن تكون في مصلحة الدولة ولا الجهة نفسها.

تكلفة السيناريوهات:

التكلفة السياسية في أربعة مستويات:
الدولة والأحزاب السياسية والمنتخبين الجهويين والناخبين بالجهة.
- ففيما يخص الدولة، وتتمثل سياسيا في فشل المشروع الجهوي في إحدى جهات الصحراء، هذه الصحراء التي كانت سببا ومدعاة لاعتماد الجهوية في شكلها الحالي كحل يمثل مقدمة لحل مشكل الصحراء الذي تجاوز عقده الرابع.
وماليا بسبب الكلفة المالية لتنظيم انتخابات جهوية جديدة قبيل نهاية ولاية الجلس الجهوي بسنتين، وما تستدعيه من إمكانات بشرية ولوجيستية وبشرية على الإدارة الترابية مركزيا وجهويا.
و فيما يخص الأحزاب السياسية التي ستكون مضطرة لخوض غمار نزال انتخابي جهوي بطعم وطني، لأنها ستكون الأولى من نوعها وطنيا، كما أن هذه الاستحقاقات ستكون وحيدة ومعزولة، وهو ما يعني أن قيادات الأحزاب مركزيا ستضطر للنزول للشارع الوادنوني لاستجداء أصوات الناخبين على ألوانها ورموزها، ومرشحيها الذين فشلوا مجتمعين أقلية وأكثرية، حتى لا نقول أغلبية ومعارضة في القيام بأدوارهم كمنتخبين، والإسهام في خدمة الناخبين الذين منحوهم ثقتهم، وتحقيق التنمية المنشودة للجهة وساكنتها.
أما فيما يخص المنتخبين الجهويين؛ فسيكونون مضطرين لإعادة تقديم أنفسهم كمرشحين لأحزابهم، وهذا يؤشر على ثلاث مسائل بالغة الأهمية:

- في حال إعادة الانتخابات الجهوية، سيفقد مستشاران برلمانيان مقعديهما في مجلس المستشارين، لأنهما انتخبا مباشرة عن طريق مجلس جهة كليميم واد نون، وهو ما يعني شغور مقعديهما إلى حين انتخاب المجلس الجهوي المقبل، مع ما يعنيه ذلك من اتساع دائرة المنافسة وتناسل الأطماع الانتخابية بين الناخبين الكبار.
- ترتيب المرشحين في اللوائح الانتخابية الحزبية، فمما لا شك فيه أن بعض أعضاء الجهة الحاليين قد لا يحصلون على تزكية أحزابهم مرة أخرى.
- التركة السياسية المخيبة لأعضاء الجهة الحاليين بعد أربع سنوات قضوها في سدة العضوية الجهوية الحالية، مرت منها ثلاث سنوات في الشد والجذب، وسنة يتيمة في غرفة الإنعاش/ التوقيف، فبأي وجه سيواجه هؤلاء ناخبيهم؟ وما الحصيلة التي سيقدمونها في جردة الحساب الانتخابي؟ وما البرامج التي سيتعاقدون مع الناخبين على أساسها؟ علما أن المشاريع الكبرى انطلقت بإرادة مركزية، وبإشراف من لجنة خاصة يرأسها والي الجهة، وتضم في عضويتها تقنوقراط من رؤساء أقسام ومصالح.
وكم ستكلف هذه الانتخابات الجهوية المبكرة جيوب المرشحين؟ خاصة وأنهم يخوضونها للمرة الثانية في ولاية انتدابية واحدة، وعلى بعد عامين من استحقاقات محلية وجهوية وبرلمانية في أفق 2021!!!.

وأخيرا فيما يخص الناخبين بالجهة؛ فهؤلاء قد ملوا الجهة واستحقاقاتها، بل وملوا منتخبيهم وووو.....
وهذا يضعنا مباشرة أمام ثلاثة احتمالات على الأقل:
- بروز تيارات جديدة وفاعلين جدد في خريطة المرشحين لخوض الانتخابات الجهوية المبكرة، وهو ما يمكن أن يربك حسابات المرشحين القدامى.
- بروز خطر عزوف الناخبين عن التوجه لصناديق الاقتراع لسببين؛ أولهما اهتزاز ثقتهم في مؤسسة الجهة، وثانيهما كنوع من الرد/ التعبير في ممارسة حقهم السياسي في الانتخاب.
- ظهور صراعات عرقية بين أنصار الفريقين، مما قد يهدد الأمن والسلم الاجتماعيين، نتيجة تأثير نعرات المرشحين في نفسيات الجمهور بالجهة.

خلاصة الكلام:
إن جهة كليميم واد نون كخليط قسري بين مكونات ثقافية وعرقية وهوياتية مختلفة- وهو ما حذر منه مثقفون ومهتمون إبان النقاش الوطني والعمومي بمناسبة طرح تصور التقسيم الجهوي الحالي مطلع سنة 2011- وقعت ضحية لرهانات أقطاب سياسية ومالية وإدارية وعائلية مركزية ومحلية متصارعة، واختارت عن قصد أو بدونه أن تدير صراعاتها المختلفة على رقعة جهة كليميم واد نون. 
إن هذا الصراع الكبير كان من نتيجته أنه:
أريد لهذه الجهة ان تفشل.
وأن تتأخر سياسيا وتنمويا عن مثيلاتها بالمناطق الصحراوية الأخرى.
مع العلم أنه كان بالإمكان اغتنام إمكاناتها و مميزاتها وخصوصياتها لإعطاء المثال الحي عن نجاح الحل المنشود في المناطق الأخرى.

الأحزاب السياسية.. بين داء فُقدان الثقة المُكتسبة وأفـق انقراض التعددية

الأحزاب السياسية.. بين داء فُقدان الثقة المُكتسبة وأفـق انقراض التعددية
يونس التايب
تعتـزم فعاليات مدنية تهتم بالشأن الحزبي و بالمشاركة السياسية في المغرب، تنظيم نـدوة فكـرية، الأسبوع المقبل بمدينة الدار البيضاء، في موضوع تمت صياغته على شكـل سـؤال بالدارجة المغـربية : “واش ممكـن نمـارسـو السياسـة بلا أحـزاب؟”، أي بمعنـى “هـل بإمكاننـا أن نمـارس السيـاسة بـدون أحـزاب ؟”. سؤال واضح، و راهني بامتياز، و استفزازي بالمعنى الإيجابي للكلمة. ولا شك أن الجواب يستلزم استعراض و تقييم أسباب نشأة الأشكال المُستجدة في الفعل السياسي ببلادنا، وأساسا ظاهرة الحركات الاجتجاجية التي عبرت مؤخرا عن مطالبها بحقوق اجتماعية و اقتصادية وثقافية، وأطرتها “تنسيقيات” اشتغلت بالاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي، و تنظمت بشكل مستقل، رسميا و تنظيميا، عن الأحزاب الوطنية. و من المؤكد أن المشاركين في الندوة سيتنـاولون أدوار الأحزاب و حصيلة أداءها، ومسؤولياتها في تدبير الشأن العام الوطني، سواء من موقع الأغلبية أو موقع المعارضة، و استقراء الإمكانيات العملية و الواقعية لتجـاوز النموذج الكلاسيكي للممارسة السياسية التي تمـر عبر قناة الأحزاب، خصوصا في مسألة التمثيلية الانتخابية. الجميل في سؤال الندوة أنه يتقـاطع مع أسئلة عـريضة يطرحها المواطنون، والشباب على وجه الخصوص، بشأن المؤسسات الحزبية في بلادنا: ماهيتها؟ وأدوارها ؟ وتجليات وجودها؟ ومنجزاتها ؟ وحكامة تدبيرها ؟ ومساهماتها الفعلية في تحسين واقع الناس ؟ و الأهم من ذلك، مدى وجود “قيمة مضافة” فعلية للهيئات السياسية تُعزز بها شرعيتها، وتُساعد على إبطال سؤال الجدوى من وجود الأحزاب إذا كانت لا تؤدي أدوارها؟ و هنا لا بد أن نُقـر بالحالة المُجتمعية الضاغطة من عدم الرضا عن الفعل السياسي، و عن الأحزاب وممثليها ومنتخبيها، حتى أن الأمر يصل لدى البعض إلى سُخط واستهجان مُستمر، و تشكيك مُمنهـج، وتسفيه أوتوماتيكي لعمل كل الهيئات السياسية، وإطلاق اتهامات قبيحة في حق السياسيين والمنتخبين، من ضعف الكفاءة، و فساد الذمة، واستغلال النفوذ، وتضييع المال العام، و تغييب صوت الشعب و تسفيه مطالبه، و إقصاء مُمنهج للنخبة المثقفة في صفوف الأحزاب، وتضييق يمنع ولوج الشباب إلى الساحة السياسية و الحزبية… إلخ. ولشيوع هذه الحالة بين الناس، أصبح السياسيون مضطرين للاعتراف بأن رصيد الثقة في الأحزاب اقترب من النفاذ، و أن “داء فقدان الثقة المُكتسبة” سيقضي لا محالة على ما تبقى من مناعة في الجسم الحزبي. و قد يؤدي ذلك إلى إزالة الشرعية عن أشكال الممارسة السياسية بأدواتها التقليدية، ما دامت لم تعُد تستجيب لانتظارات المواطنين، و لا هي تخلقُ التحفيز المطلوب لتتجدد الساحة السياسية و يرتفع مستوى الأداء التدبيري للشأن العام، و تظهر نُخب بكفاءات عالية، و برامج و تصورات جديدة وناجعة. و علينا أن نعـذُر من ينتقـدون أداء الأحـزاب السياسية، و نتفهم امتعاضهم مما يلحظونه من غياب أغلب تلك الهيئات عن الواقع اليومي، وغياب التواصل أو الإنصات الصادق لمشاكل الناس، واكتفاء عدد كبير من ممثلي الأحزاب بالظهور أيام الانتخابات، من خلال دكاكين ومقرات موسمية تُفتح هنا وهناك، بدون تأطير سياسي ميداني بين المحطة الانتخابية و التي تليها. كما علينا أن نأخذ في الاعتبار أن الصورة العامة التي تشكلت في أذهان الناس، أمام استفحال أزمة البطالة وتوسع الفوارق الاجتماعية و تدني الخدمات الأساسية من تعليم و صحة، هي أن الأحزاب عجزت عن تحقيق التطلعات و الوعود التي أطلقتها، و انشغل “زعماؤها” و “مناضلوها” بمشاكل تنظيمية وحروب مواقع، و أوقفت جُل الأحزاب ماكينة “إنتاج السياسة و بلورة البدائل و تأطير الشباب وتكوين الأجيال الصاعدة على مبادئ الديمقراطية و المواطنة و خدمة الوطن”. فيما قامت الأحزاب المُسيرة للحكومة بترسيم سياسات عمومية لا تُحقق الأمال المنشودة في التنمية والعدالة و المساواة والتشغيل و محاربة التهميش الاجتماعي و تطوير منظومة التربية والتكوين وخدمات الصحة العمومية. ورغم ذلك، مع تسليمنا بأن جزء كبيرا مما ينتقدُه الساخطون على الحياة الحزبية، صحيح و واقعي ويحتاج إلى معالجة، إلا أنني أعتقد أن إصدار حُكم قيمة على كل الأحزاب وإدانتها جملة و تفصيلا، سيظل غير موضوعي إذا لم يأخذ في الاعتبار، رواسب السيـرورة التاريخية الوطنية، و ما عرفته من انعطـافـات حـادة أدت، في فتـرات معينـة، أدت إلى خلخـلة منظـومة القيـم المُتحكمـة فـي “النضال السياسي”، و غيـرت “قـواعـد اللعـبـة” غير ما مرة، وجعـلت حكـامة النسـق السياسي العام تقبـل بما لم يكـن أبـدا ممكنـا القبـول به في الممارسة السياسية في أزمنة سابقـة. وبالتالي، إن تسفيـه الأداء الحزبي، وتعميم التهـم على جميـع مكـونات المشهد، فيه ظلـم كبير للفاعلين الجادين، و هم موجودون في كل التيارات، كما أن المفسدين موجودون أيضا في كل التيارات. إضافة إلى ذلك، يظل حصر خلل الممارسة السياسية في فاعل واحد هو الأحزاب السياسية، بدون استحضار تفاعل وديناميكية تدافع باقي الفاعليـن المؤثـريـن، أمـرا غيـر دقيـق. ويقيني أن أول الفاعلين الذين يجوز في حقهم كثير من العتاب و المؤاخذة، هم المواطنون أنفسهم، خصوصا منا أولائك الذين اختاروا الانزواء عن الدينامية الحزبية، والعزوف عن المشاركة السياسية، و الغياب يوم اختيار المنتخبين بالجماعات والمجالس النيابية، وعدم إغناء النقاش العمومي بأفكارهم و كفاءاتهم ومساهماتهم، وعدم السعي لممارسة الحقوق التي يكفلها الدستور للمواطنين في مراقبة الفاعل العمومي و تتبع السياسات و انتقادها، وعدم الاستفادة من آليات الديمقراطية التشاركية محليا و جهويا، وعدم اللجوء إلى أجهزة الحكامة المختلفة وإلى وسائل الإعلام من أجل فضح الممارسات الفاسدة، و الصبر على التعب الذي تُسببه طريق السياسة و المُواطنة المسؤولة. وإذا كان صحيحا أن نسبية الممارسات الديمقـراطيـة داخـل التنظيمات الحزبيـة لا تُشجـع على الانخراط الفاعل للمواطنين، و خاصة الشباب، إلا من كان له منهم طول نفس، وروح نضالية عالية، و ذكاء اجتماعي كبيـر، يبقى أن لا شيء يُجيز الغياب لأن “سياسة الكرسي الفارغ” كانت وستظل عاجزة عن تحقيق أية إضافة إيجابية، أو تغيير الواقع الحزبي و السياسي و المؤسساتي نحو الأفضل. بل على العكس، سيبقى لعدم المشاركة ورفض الانخراط في الحياة الحزبية أثـر واحد هو تـركُ الساحة الحزبية رهينة “قفـوزية” المُتاجـريـن بالسياسة وبالقنـاعـات وبالمـواقـف وبمصائر الناس. كما أن العزوف السياسي يجعل الحياة الحزبية عقيمة ومُعقدة، حيثُ أن النخبة الرشيدة والصادقة، الموجودة في الأحزاب الجادة، تجد نفسها بلا سند وبلا دعم من “الصالحين والنزهاء” الذين آثروا الابتعاد و عدم المشاركة. مما يُجبرُ تلك النخب على التعايش مع واقع بئيس يضيق فيه هامش الحركة والفعل السليم، أمام إمكانيات و شعبوية بعض النماذج “الخارقة” التي حلت بالذات الحزبية، عبر مراحل، إما لتحتمي بمظلة الأحزاب خوفا من أن تصلها الأيدي المُتعقبة للفساد، أو لأنها لا تستطع تحقيق نجاح يُذكر خارج السياسة. ولأنها قررت أن تستثمر “مهاراتها الخطابية” الجوفاء، و “كفاءاتها” في علم “من أين تُأكل الكتـف”، وقدراتها على “تنشيط” الاجتماعات، الخاصة و العامة، وتدبير “الكولسة و إنتاج “القوالب”، لم يعد لديها شك في استحقاقها مقـام “الـزعـامـة”، بفضل البُعد الكمي البليد الذي يتيح الغلبة، ديمقراطيا، “للأرقام والأعداد” و ليس للقيم والأفكار الجيدة. لذلك أظن أن من يروجون لعدم المشاركة، و يتجنبون مشاكل التدافع السياسي المؤسساتي المُنظم، ويكتفون بسياسة “الصبع من تحت الجلابة”، والانتقاد على منصات التواصل الاجتماعي، يستحقون أن نقول لهم بأدب : رجاء لا تستنكروا و لا تلوموا حال أحزابنا ونُخبنا، و لا تشتكوا من تردي القدرة على إنتاج البدائل و بلورة المقترحات السياسة، لأنكم بغيابكم، تعيدون إنتاج شروط المُعضلة و تكرسونها من حيث لا تشعرون. ويبقى الأهم، إذن، هو أن تنهض الأحزاب للدفاع عن رصيد الثقة المُتبقي فيها، من خلال اعتماد مقاربة تتجـاوز المنطـق التبريري لداء “فُـقـدان الثقـة المُكتسبة”، و التحلي بشجاعـة الاعتراف بالتقصيـر الذي حصل، والخروج بالاستنتاجات اللازمة، واتخاذ القرارات التي تترتب على ذلك و منها حتمية التداول وترك المكان لكفاءات و طاقات أخـرى، وابتكار أنماط تنظيميـة جديـدة، واعتماد منظومة حكامة صارمة تُلـزم القيادات الحزبية بأن تكون أنقى و يكون أداؤها التدبيري أنجعُ وأرقى من الصورة البئيسة التي علقت بها في الأذهان. لم يعُد يخفى أن الوضع غير صحي تماما في بُعده الإستراتيجي، لأن العملية الديمقراطية تفقد أي معنى في غياب حضـور حـزبي قوي و متوازن، و ذي مصداقية لدى الناس. ويظل الخطر قائما في أن تميل الأمور إلى شكل من أشكال “انقراض التعددية” و “احتكار المشهد و المؤسسات” من طرف أي تيار أو فاعل حزبي، يكون أكثر تنظيما وأكثر ضبطا لمناصريه، و يستطيع الخروج بأقل الأضرار من رُكام التسفيه وتشويه الحياة الحزبية، و يتمكن من تحقيق الغلبـة على باقي الفاعلين ب”أغلبية نسبية” تُعززها المشاركة الانتخابية الضعيفة. فهل من الأحزاب أو من المواطنين من يريد أن تموت تعدديتنا السياسية ؟ لا أظن ذلك، ولكن الكثيرين غافلين أننا سائرون إلى ذلك الأفق من غير وعي. ويبقى الأمل الوحيد هو أن واجب الدفاع عن المصالح العليا للدولة الوطنية، الذي هو أقدس وأهم من أية عملية ديمقراطية عليلة و مُخلخلة بسبب عزوف مستمر وأحزاب لا تؤدي كامل وظائفها، سيجعل من غير الممكن أن يُسمح بالانتظار إلى ما لا نهاية، أن تستيقظ بعض مؤسسات الوساطة السياسية من سُباتها، و أن تتصالح مع المواطنين. كما أن استمرار التدبير السليم للنسق المؤسساتي، و احترام الثوابت الوطنية و الدفاع عن خيار الديمقراطية والتعددية و التداول السلمي على السلطة عبر آلية الانتخابات الديمقراطية الشفافة، سيمنع قبول مزيد من هـدر الزمن السياسي و الصبر على تهافت حزبي لا ينتهي. حذاري إذن، أن نُهون من أثـر واقع الخلل الكبير الذي تشهده الساحة السياسية، و الذي تزيد من خطورته السياسات النيوليبرالية المجحفة للأغلبية الحكومية، و ما تُسببُه من احتقان صامت و غليان بُركاني في الأعماق. و حذاري، بدرجة أكبر وأعمق، أن نُعول على “الطبيعة التي تكره الفراغ و تسعى لملئه بما تيسر لها”، لأن “ما قد يتيسر لها” قد لا يُعجب غالبية الناس، و قـد لا يُحقـق مبتغـاهم في التقـدم و التنمية والحرية و العدالة الاجتماعية والاقتصادية و المساواة والانفتاح على تحديات العصر، و بناء دولة المؤسسات، و سمو القانون في إطار دولة وطنية تحمي الهوية المغربية الأصيلة. أما إذا استمر هذا العبث القائم، فعـلـى الجميع أن يقبـلوا أفقا دراماتيكيا يتعايش فيه احتمالان اثنين: أولهما، “تصويت ديمقراطي”، بتوابل العزوف و ضُعف المشاريع السياسية، تنقرض به التعددية السياسية بعد تحقـق فوز و غلبة غيـر مسبوقـة لفاعـل واحـد، ليس لأن قوته “خارقة”، أو لأن له حلولا سحرية للمشاكل، أو لأنه أبان عن كفاءة قل نظيرها، ولكن فقط لأنه يجتهـد و يعمل في الميدان مع مناصريه، فيما منافسوه غارقون في بحر من التخبط الفكري، وصراع المواقع و الذوات المُتضخمة، والاستسلام لمنطق المصالح و المكتسبات الآنية بكل السبل، متناسين الوطن وأفضاله عليهم. ثانيهما، هـو أن نـرى المجتمع و قد أصبح أرخبيلا من “التصورات و المشاريع و الرؤى السياسية”، كل قوم بما لديهم فرحون، يتحركون ويرسمون طريقهم، و يمارسون السياسة، في شبكات التواصل الاجتماعي أو في زوايا الشوارع و الساحات العمومية، بمعزل عن أي تأطير مؤسساتي حزبي، وأي أفق استراتيجي وطني جامع. حينها ستزول الحاجة إلى مجموعة من الهيئات السياسية تلقائيـا، بعد أن يكون قد تأكد أنه من غير المُمكن أن يُعـول عليها لرفع منسوب التنافسية السياسية و الـرُقـي بوضع تدبيـر الشـأن العام الوطني. وحينها، لن يُقبـل من أحـد أي حديث عن تعـرض العملية الديمقراطية “للقرصنة”، ولن يستجيب أحد لصرخات “أغيثونا… إن التعددية في خطر”، لأن القضية ستكون قد حُسمت و قُضي الأمر الذي فيه ستستـفـتـون. فهل سننتظر أن يحُل هذا الأفـق؟ أم ما يزال بيننا شيء من العقـل و الحكمة و الغيرة الوطنية ؟