اعترافات صحافي سلطة

سليمان الريسوني
«سيدتي.. أنا أعرف وأقدر معاناتك.. ولم يحدث أن شككت فيها، وإذا صدر عنّا ما يسيء إليك.. فإنه صدر في ظروف لم نكن نحكم فيها في أمرنا ولا في إرادتنا ولا في الجريدة أصلا… أنا شخصيا كنت أشعر يوميا بالذل والاضطهاد والظلم.. لكنني كنت «أبلع السكينة بدمها» لعدة أسباب، أهمها أنه لا حول لي ولا قوة، ولا أستطيع مواجهة دولة بوسعها، بكل بساطة، أن «تطيّرني بنفخة» فمن أنا؟ ما أنا في نهاية الأمر إلا مواطن عادي.. لذلك، فإن ظلمناك أو أسأنا إليك، أو قلنا فيك عكس ما يجب أن يقال فيك، فإن مثلنا هو التالي: «سألت قطعة الخشب المسمار بقولها: آش بيك يا خويا نازل عليّ وداخل فيَّ؟ أجابها المسمار بقوله: آه يا أختي لو تعرفي أشنو اللي هابط عليّ.. تعذريني».. وكان المسمار يقصد المطرقة.. ونحن كذلك كانت المطرقة تنزل علينا يوميا بصورة من الصور… يا سيدتي، إذا كنت مقتنعة بأن تحطيم صحافي في سني وقدري وتاريخي سينفع المغرب، وسيقدم له خدمة وطنية يستفيد بها، فإنني أقسم لك بأن أتولى تحطيم نفسي بنفسي، وأشعل النار في جسدي على طريقة البوعزيزي.. المهم أن تكوني أنت مقتنعة بأن تحطيمي و«تطييح قدري».. و«تمرميدي» سينفعك أنت شخصيا وينفع الوطن.. لقد أخطأنا في حقك.. نعم.. وسبق أن كتبنا هذا وأعلنا اعتذارنا للجميع، وها نحن نخصك أنت بهذا الإعلان.. فهل هذا يرضيك؟ وهل هذا يكفي؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فإننا على استعداد للانسحاب من الميدان.. ومن المغرب.. وحتى من الحياة…».

هذا نص الرسالة التي بعثها الصحافي التونسي، صالح الحاجة، أحد أشهر الأبواق الإعلامية للسلطة في عهد المخلوع زين العابدين بنعلي، إلى الحقوقية التونسية سهام بنسدرين، يعتذر إليها فيها عن حجم الأذى الذي اعتاد إلحاقه بها، هي وأمثالها من رموز المعارضة التونسية، وهي رسالة كتبها هذا الصحافي بعد أيام من خروجه في إحدى القنوات التلفزيونية التونسية يبكي ويعتذر إلى معارضي بنعلي عن حجم الأذى الذي ألحقه بهم.

لقد نقلت هذا الاعتراف بتصرف قليل من قبيل تعويض تونس بالمغرب، وحذف اسم سهام بنسدرين، الذي يمكن تعويضه باسم الحقوقية خديجة الرياضي، أو زوجة زميلنا توفيق بوعشرين، أسماء الموسوي، التي تتعرض، هذه الأيام، لحملة تشهير بئيسة، لا لشيء سوى لأنها لم تتخل عن زوجها في محنته، مكسرة بذلك أفق انتظار مهندسي اعتقاله الذين توهموا، وهم يعدون هذا الملف المرعب، أنها قد تصدقهم وتنساق خلف روايتهم المتهافتة. يمكن تعويض بنسدرين، أيضا، بأسماء عشرات الصحافيين والحقوقيين والسياسيين الذين يجدون أنفسهم، يوميا، عرضة لحملات التشهير القذرة من لدن إعلام الاستعلام الغارق في بحبوحة المال والسلطة.

لقد عدت إلى هذه الشهادة القوية لأبين لمسؤولي إعلام الاستعلام عندنا، ما الذي سيحدث لهم عندما سيضع المغاربة حدا للصحافة التي تتلقى المال العام للاعتداء على الحياة الخاصة للمغضوب عليهم وأفراد عائلاتهم. وهذا، بحول لله وإرادة الشعب ومنطق التاريخ، آتٍ، طال الزمن أم قصر. وحينها سيضمحل كثير من «الصحفجية» الذين يجمعون بين الخبر والاستخبار، ويقايضون الإشهار بالتشهير، لكن بعضهم، ممن لم يراكموا ما يكفي من ثروة تمكنهم من العيش خارج مهنة الصحافة، سيضطرون إلى الاعتذار، وكشف تفاصيل الأدوار القذرة التي كانوا يضطلعون بها، مثلما خرج مدير جريدة «الصريح» التونسية، صالح الحاجة، يبكي ويقول إن المقالات اللاأخلاقية التي كان يستهدف بها الحقوقيين والسياسيين المعارضين للرئيس المخلوع، كانت تأتيه مكتوبة من وزارة الداخلية.

والحقيقة أننا لن ننتظر انتقالا حقيقيا نحو الديمقراطية في المغرب، وفطما تاما لإعلام السلطة عن ثدي المال المشبوه، لنعرف كيف تدور عجلة إعلام التشهير، بل إننا نجد يوميا صحافيين، وأحيانا رؤساء تحرير، في واحدة من هذه الجرائد والمواقع البئيسة، يعتذر إلى زملائه قائلا: «أنا لا دور لي في نشر مواد التشهير، وإن المكلف بذلك هو المدير، أو المدار به، الفلاني الذي يتلقاها من الجهة الفلانية». ولعل هذه خصوصية مغربية، حيث يتعايش الإصلاح والفساد، والنضال والاختلال، في الحزب نفسه والنقابة نفسها والجريدة نفسها، والحكومة ذاتها التي تجد فيها وزيرا يحمر ويخضر وهو يحمل مسؤولية اختلال في قطاعه إلى «الفوق»، بل حتى داخل الجهاز الأمني الواحد تجد من لا يرضى عن كثير مما يقوم به زملاؤه، ويحاول تداركه، وكلكم يعرف حكاية الغريب الذي طرق باب حسن طارق يحذره، عبثا، مما يحضَّر ضد صديقه توفيق بوعشرين. لقد حكى لي الزميل الصحافي كريم البخاري، ابن عميل الاستخبارات أحمد البخاري، الذي ارتبط اسمه باختطاف واغتيال المهدي بنبركة، أنه تربى في بيت يُذكر فيه المهدي بنبركة بصفته مثلا أعلى ورمزا للطهارة والنقاء، وأن والده وزملاءه السابقين في «الكاب 1» كان لهم ارتباط وجداني بالمهدي بنبركة، وأنهم كانوا يتحدثون عنه بتقدير عال. زملائي في صحافة التشهير، لا تشغلوا بالكم بلحظة الاعتراف، الآتية حتما، فأعمالكم تشهد عليكم وزملاؤكم ينوبون عنكم في ذلك. تأكدوا فقط أنكم ستكونون، مثلما قال المتنبي، كصالح في ثمود، وكالمسيح بين اليهود.

شارك

الكاتب :

التالي
السابق